مراقبة البيانات والقرارات وما يتسرب للإعلام الاسرائيلي من معلومات ميدانية ، تشير الى ان هناك نقاشا واسعا حول الحرب البرية في غزة، ومما يستخلص من هذه المناقشات ، يمكن رصد ما يلي:
أولا: الحرب البرية بين محفزاتها وموانعها : تعتقد اسرائيل ان الدخول يحقق لها ما يلي:
أ- العمل على تكرار ما جرى عام 1982 في لبنان من اجتياح اسرائيلي حتى بيروت ، لينتهي الامر الى اخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، واضعاف تواجدها في تلك المنطقة الاستراتيجية، وهو امر يمكن ان تفكر فيه اسرائيل مرة اخرى ، لأنها يمكن ان تجتاح لمسافة معينة وتفرض شروط من ضمنها ضغوط التهجير والقصف للمدنيين وانهاك البنية التحتية والنفسية للمجتمع الغزي، او ان يغادر مقاتلي حماس غزة.
موانع هذا الحافز: ان المقاومة الفلسطينية عادت للبنان ولو بزخم اقل لكنه قابل في ظرف موات ٍ ان يتزايد ، وها هي المقاومة الفلسطينية تهاجم اسرائيل حاليا وهو ما تجسد في بعض عمليات الجهاد الاسلامي في الايام القليلة الماضية في جنوب لبنان؛ ناهيك عن ان تغييب المقاومة الفلسطينية في لبنان افرز حزب الله الذي تراه اسرائيل اكثر خطرا من المقاومة الفلسطينية واكثر تسليحا، وهو ما جعل رئيس الوزراء الاسبق شيمون بيريز يقول في عام 1982 " في لبنان استبدلنا خطرا تنقصه الخبرة بخطر أكبر وأدهى".
ب- حافز ان الدخول الى غزة وتصفية المقاومة كما يردد عدد من قادة اسرائيل ومن بينهم نيتنياهو وغالانت سيحرر اسرائيل من هذا الهم المزمن ، وسيفتح المجال امام هدوء على الجبهة الاسرائيلية الجنوبية والتي شكلت نقطة ضعف اساسية لإسرائيل.
موانع هذا الحافز: ان الدخول يحمل في طياته مخاطر استراتيجية هي:
1- ان التوغل البري قد يزيد من احتمالات اتساع الجبهة بدخول حزب الله وربما ايران وانصار الله اليمنيين في جبهة البحر الاحمر، ورغم ان هناك خلافات اسرائيلية في تقدير احتمالات اتساع ميدان المواجهة الى مستوى اقليمي، إلا ان كل الاسرائيليين متفقون على ان احتمال الاتساع للمواجهة في حالة الحرب البرية تزيد ، وهو ما يشكل مخاطرة كبرى بخاصة ان تداعيات الحرب الاقليمية ستمتد لفترة طويلة ،وهو ما يجعل المنطقة بحاجة اعادة ترتيب وتعطيل –وليس الغاء- مسار التطبيع.
2- ان الدخول البري ينطوي على احتمال ان تكون الخسائر البشرية الاسرائيلية عالية للغاية ،وبخاصة ان الجولة الاولى في طوفان الاقصى دل على ان المقاومة لديها مفاجآت وحسن تخطيط عسكري ، وعلى القوات الاسرائيلية ان تتعامل مع حوالي 300 كيلومتر من الانفاق التي تتمدد تحت حارات وازقة غزة، خاصة ان الكثافة العمرانية في غزة تجعل براح الحركة للآلة العسكرية الاسرائيلية أضيق ، ناهيك عن أن التدمير للمباني في غزة سيشكل نوعا من جدران الصد للآليات الاسرائيلية.
3- ان التعاطف الدولي مع اسرائيل ورغم استمراره لم يعد بزخمه الاولي بعد حربها على المدنيين وصور الضحايا ، ويلاحظ ان اغلب الهيئات المدنية الدولية( هيومن رايتس، اطباء بلا حدود، الصليب الاحمر الدولي، الامانة العامة للأمم المتحدة، اللجنة الدولية لحقوق الانسان،...بل وتصريحات زعماء في الكثير من دول العالم ) بدأت توجه اتهامات للإسرائيل في هذا الجانب ، ولا شك ان الحرب البرية ستزيد من ضغوط هذه المحاذير.
4- ان الدخول البري سيؤدي الى جنون في اسعار النفط والغاز، وهو امر –بخاصة إذا اربك انصار الله –التجارة البحرية في البحر الاحمر، وهو ما سيؤدي الى :
أ- تستورد اوروبا حوالي 14.5 مليون برميل نفط يوميا، وهو ما يعني تحميل الموازنة الاوروبية في حالة ارتفاع الاسعار خمسة دولارات للبرميل ما يعادل قرابة ما بين 70-74 مليون دولار يوميا، في ظل ازمة اقتصادية اوروبية حادة مترتبة على الحرب الاوكرانية .
ب- ان ارتفاع الاسعار ستجعل الموقف السياسي والاقتصادي للرئيس الروسي بوتين افضل حالا ، بل سيؤدي تفاقم الامر الى حرب اقليمية في الشرق الاوسط الى توسيع دائرة الانهاك للولايات المتحدة في ظل ازمتي اوكرانيا وتايوان ، وهو ما يجعلني لا استبعد ان بوتين قد يحرض على التدخل الايراني وحزب الله بهدف توسيع وتحسين فرصة تدعيم مواقعه في اوكرانيا.
ثانيا: احتمال البحث عن بديل وسط، مثل شن حرب برية محدودة لمناطق في غزة واستمرار الضغط على المدنيين ، بهدف تهيئة المجال لتفاوض حول الاسرى الاسرائيليين وشروط التهدئة عبر تجنيد كل الضغوط الاوروبية والامريكية وبعض "المطبعين " العرب لصياغة شروط وقف الجولة الحالية، وقد تطلب اسرائيل نزع سلاح المقاومة،او مغادرة حماس المنطقة، او اطلاق سراح كل الاسرائيليين دون اي شروط مقابل وقف قصف المدنيين والسماح بمرور المساعدات، وابقاء التهديد بحرب برية قائما بهدف الضغط والترويع على المقاومة.
أخيرا...قد يكون التفكير العقلاني لصانع القرار الاسرائيلي هو تجنب الحرب البرية بالطريقة التي يجري الترويج لها، ولكن الممحاكات السياسية بين القوى السياسية الاسرائيلية قد تغري البعض بدفع الامور في اتجاه "أقل عقلانية"..