قال له: “أنت عربي وفلسطيني ومسلم، لأجل ذلك يجب أن تموت!”. حدث هذا في إلينوي – شيكاغو، حين قام مواطن أمريكي بقتل طفل فلسطيني في السادسة من العمر لأنه فلسطيني. فهل صار الاسم الفلسطيني مبرّراً للقتل؟ الطفل لم يقتل في إسرائيل حيث يُقتل الفلسطينيون بالعشرات والمئات يومياً، لكنّه حدث في مكان بعيد جداً حُمِلت إليه الكراهية والعنصرية حملاً، وصارت اليوم شعاراً إسرائيلياً دائماً.
ماذا يجري في العالم؟ هل نحن أمام تحريض وتنفيذ لإبادة شعب بالكامل؟
من يريد قتل الفلسطينيين بمسلميهم ومسيحييهم؟
يقوم هؤلاء الإسرائيليون الأوباش بتذكيرنا بما نسيناه نحن أو تناسيناه ولم نحافظ عليه إلا بالفلكلور، وهو أننا شعب يتألف من مسلمين ومسيحيين، وأن إخفاء الوجود المسيحي أو تهميشه ليس سوى محاولة لإخفاء فلسطين نفسها.
ففلسطين، وهذا ما نتناساه بشكل واع أو غير واع، هي أرض المسيح. هنا ولد الناصري، وهنا صلب في القدس وكان بذلك هامة الشهداء ورمزهم.
بدأوا القصف في الجامع العمري الكبير الذي يشير إلى تسامح إسلام البدايات. محو هذا التسامح كان عملية معقدة لعب فيها البيزنطيّون، ثم الصليبيون والإفرنج، دوراً هائلاً من أجل فرنجة المشرق العربي.
ثم لعب الصليبيون الإفرنج دوراً أكثر حمقاً من أسلافهم، حين قاموا بتدمير المسيحية الشرقية بكل فروعها، وحاولوا تحويل المسيحية إلى جناح ثقافي واحد، ما أدى عملياً إلى هجرة الإكليروس الأرثوذوكسي إلى بيزنطيَة وإلى أسلمة القسم الأكبر من المسيحيين العرب.
هؤلاء الأوغاد يريدون أن يكملوا “رسالة” أجدادهم الإفرنج عبر خلق فلسطين خالية من سكانها الأصليين أي من كونها مجتمعاً متعدد الهويات والثقافات والديانات. وهم بذلك يقومون بتحويل المشروع الصهيوني من مشروع كولونيالي إلى مشروع ديني.
في المشروع الكولونيالي الصهيوني رأينا علامات المشروع الديني، لكن هذا المشروع كان يحجب خلفه مشروعاً “اشتراكيّاً وعلمانيّاً وديموقراطيّاً”. المشروع انكشف الآن وصارت إسرائيل مجرد أداة “يهودية – نازية”، حسب قول المفكر الإسرائيلي هوروفتس.
نحن إذاً لا نواجه قصفاً لكنيسة القديس برفيريوس الأرثوذوكسية التي يعود بناؤها إلى القرن الخامس، أو الجامع العمري الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع، أو المجمع – المستشفى – المعمداني (الأهلي العربي)، بل نحن أمام قصف لغزّة هاشم؛ أي لإخراج غزّة من الوجود.
يحاول الإسرائيليون إخراج الرمز الفلسطيني من المشهد، وهذا ما شاهدناه على وجه غسان أبو ستّة الذي تعرفت عليه حين كان متطوعاً في حرب غزة الأولى، والذي ربطتني به صداقة الدم والأفق.
نقرأ في عينيّ أبو ستّة ليس الخوف كما يريدنا الإسرائيليون أن نقرأ في عيوننا، بل نقرأ الشجاعة والصمود والنبل الأخلاقي. ننظر إلى عيون أهل غزة ونتذكر ما كانت تقول لنا جداتنا “العين مغرفة الكلام”.
عيوننا تكتبك يا غزة لترويك وتلمّ الدمار عن شوارعك وتحضنك.
قصف المستشفى كان محاولة لقتل الرمز الإنساني وقتل البياض الذي نشرته أكفان الأشلاء، وهي تعلن أن الموت هو أحد رموز الحياة.
في الماضي سئل إسحق رابين عن رأيه في مصير غزة، فقال: “علينا أن نرميها في البحر”.
المتخيل الغزاوي طُبّق في بيروت عام 1982، لكن بيروت لم تذهب إلى البحر، بل جاء البحر إليها واحتضنها. وغزة أيضاً، رغم كل هذا الدمار الفادح الذي سيستمر أياماً طويلة مقبلة، سيكون استمراره دليلاً على أنه يواجه عدواً لا يرحم ولا يريد أن يرحم، بل يريد إبادة خصمه وإخراجه من الخريطة، أي رميه في البحر.
وغزة بعد سقوط فلسطين عام 1948 صارت هي فلسطين. فلسطين لا تعيش بلا هواء البحر الأبيض، والبحر الأبيض احتجب خلف عكا وحيفا ويافا، فلن يبقى للفلسطينيين المقيمين في فلسطين سوى غزة يحتمون بموجها من الموج الإسرائيلي، ويأكلون من سمكها نكهة بحر يافا.
اخجلوا من أنفسكم أيها العرب، لأن كل العروبة تتخذ اليوم اسماً واحداً هو فلسطين – غزة.