دول بلا وطن!! / في بعض أشباه الدول العربية تتضاءل همّة بعض الحكام بقدر ما تتعالى ناطحات سحابهم أو تتسع "مدنهم الجديدة" الفرعونية، وتتغلب العصبية القبلية القديمة من بطون وأفخاذ، الخ... على الوطنية،
وتجد القبلية قناعها الحديث في ضيق الأفق الإيديولوجي بحيث أن الموقف الإيديولوجي يقوّض سقف الوطن والأمة، والرؤية الجزئية تقوض الرؤية الكلية، والشجرة تخفي الغابة حتى في الأوقات العصيبة وفي الكوارث الكبرى. ليس هذا جديدا.
تاريخ العرب السياسي حافل بغلبة الجزئية العصبية على ما سواها من القيم المؤسسة للأمم العظيمة. كان كثير من الحكام العرب يلجؤون إلى أعدائهم لانتصار بعضهم على بعض وحل خلافاتهم الداخلية. والأمر لا يزال كذلك في أشباه الدول المصطنعة اصطناعا. بلدانهم مجرد دول بلا وطن ولا وطنية !!!
غزة هي بمثابة بروليتاريا العالم في القرن الواحد والعشرين: ليس لها ما تخسر سوى قيودها. ولذا تمثل تحولا نوعيا في كفاح شعوب بلدان الجنوب حاليّا.
أخطر جريمة منذ قنبلة هيروشيما ولو رمزيا هي المشروع الصهيوني الأمريكي الذي صار صريحا: تهجير أهل غزة، قبل أن يأتي غيرهم من الفلسطينيين، ثم غير غيرهم: فالمهجرون بالقوة من أرضهم لن يموتوا يوما عليها ولن يدفنوا فيها بترابها يلفهم عبق مكان ولادتهم، وفي وجدانهم ذكرى صباهم. إذا حصل هذا التهجير ستكون النكبة مصيبة كبرى أشد خطرا لأنها قد تقطع ولو لحد معين التراكم الحاصل في المقاومة منذ عقود.
قادة الغرب يريدون الإطّهار من جرائمهم القديمة إزاء جالياتهم اليهودية بالوقوف مع جرائم الجيش الإسرائيلي في غزة: قربان غزة مقابل الغفران والنسيان... أما سياسيا فإنهم لو رفضوا الرواية الإسرائيلية السخيفة لتناقضوا مع أنفسهم وأربكوا موقفهم الأعمى الداعم لإسرائيل... ربما بعد فوات الوقت بعترفون على نحو ما تعلموه من ثقافتهم…
تاريخ الغرب هو تاريخ الظلامية السياسية الأخلاقية الدموية الشاملة منذ الإبادة الجماعية الذي اقترفها أثناء غزوه واحتلاله للمكسيك في القرن السادس عشر بلغت بالعساكر الأسبانية حد تعليق السكان الأصليين عُراةً بقضبان الشواء وإشعال النار، والزهو بالفرجة، حتى حروب القرن العشرين و"الهولوكوست" التي نظمتها الدولة الألمانية العسكريتارية المتصوّفة.
وبصرف النظر عن الاستراتيجية السياسية العسكرية وما تمليه الحروب من تحالفات، هناك في جرائم الحرب على غزة بعدٌ نفسي وتحليل نفسي: ففضلا عن الانحياز الكامل إلى إسرائيل الذي بلغ حد تبني النوايا الإسرائيلية الدفينة، وعن المشاركة في الحرب العسكرية ضد غزة (التهديد الأمريكي هو حرب في حد ذاته ولا يدل على ضبط للنفس)، وعن الحرب «الديبلوماسية» لحشد الحلفاء لإسرائيل (مع المطالبة بضبط النفس من جانب واحد فقط) ، فضلا عن كل ذلك يبتهج أمراء الحرب الغربيون لرؤية ضحيتهم اليهودية بالأمس وهي ترتكب اليوم أبشع الجرائم.
والتبادل بين «جلاد الأمس» و«جلاد اليوم» هو تبادل منصف أو يكاد: مقابل دفاع الغرب عن الدولة اليهودية في حربها المسعورة ضد غزة، وهي حرب لا تعترف بقوانين الحرب، تبيع إسرائيل للغرب الفرصة الذهبية لممارسة تطهّره على قربان غزة من جرائمه السابقة إزاء اليهود. ولكأننا بكلا الطرفين، الإسرائيلي والغربي، يقول للآخر: «حسنا ها أنت وأنا قد صفينا الحساب القديم الذي بيننا فصرنا سواسية».ولكن في الوقت نفسه، من الأرجح أن الغرب وإسرائيل، قد وقّعا على مرسوم نهاية الأسطورة الإسرائيلية واضمحلالها من قلب كل إنسان حر يريد انعتاق الشعوب والإنسانية المعذبة من كل نير واحتلال واستيطان.
ملاحظة أخيرة: التظليل الإسرائيلي عن عملية الإبادة في مستشفى المعمداني هو إثبات لفاعل الجريمة وهو الجيش الإسرائيلي. فالمجرم السياسي الذي يقترف جريمة سياسية نكراء للغاية مثل هذه الجريمة لا يمكن مطلقا أن ننتظر منه اعترافا بجريمته بسهولة. لا خيار له إلا أن ينكر. وتساؤل بعض وسائل الإعلام العربية هو في حد ذاته تشكيك أكان عن قصد أو من دون قصد، لكن ساذج في كل الحالات.
عندما يبلغ النزاع السياسي ذروته حتى من دون حرب فلا جدوى من الجهد في إقناع الخصم وحلفائه لأنه لا أحد منهم سيقتنع بحججك العقلية السياسية وبمنطقك مهما كان متماسكا فما بلك أن يعترف بارتكابه جريمة حرب في حقك: منطق الحقيقة ومنطق القوة والعنف لا يلتقيان. فمجرد أن تتساءل حول ما هو بديهي يصبح تشكيكا ونفاقا: إسرائيل قبل تأسيسها، وإبان تأسيسها، وبعد تأسيسها، مبدؤها ومنطقها هما تنظيم المجازر منذ انتشار عصابات الهاغاناه التي ستكون جزءا من تكوين الجيش الصهيوني. من يبحث له عن دليل في صاروخ المعمداني إنما كمن يتجاهل مجازر الماضي أو يبررها بتناسيها.
جميعا جنبا إلى جنب مع مقاومة الشعب الفلسطيني "للحلف الغربي الإسرائيلي المقدس". ما مصير الإنسانية وأية إنسانية نريد؟ يتوقف الجواب على مَنْ مِنَ المعسكريًن سيكون المنتصر على مدى أبعد…