نشرت مجلة فورين أفيرز في عددها الأخير ( نوفمبر ديسمبر 2023) مقالا لمستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان تحت عنوان "مصادر القوة الأمريكية.. سياسة خارجية لعالم متغير".
المقال الذي كتب قبل عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر الماضي، يفصل تصور الإدارة الأمريكية الحالية للعالم في المرحلة المقبلة، ويقدم رؤية لما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية في المرحلة المقبلة إلى غاية سنة 2050 حيث يعتبر أن العالم دخل في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة، أو ما عرف بـ "نهاية التاريخ"، حيث يرى أن السياسة الخارجية الأمريكية تطورت في عصر يتحول بسرعة والسؤال الأن هو ما إذا كانت أمريكا قادرة على التكيف مع التحدي الرئيس الذي تواجهه: المنافسة في عصر الاعتماد المتبادل.
يقول سوليفان إن جوهر السياسة الخارجية لبايدن هو وضع أساس جديد للقوة الأمريكية بحيث تكون البلاد في وضع أفضل لصياغة العصر الجديد بما يحمي مصالحها وقيمها، ويتحدد مستقبل أمريكا بأمرين: مدى قدرتها على الحفاظ على مزاياها الأساسية في المنافسة الجيوبوليتكية، ومدى قدرتها على تجنيد العالم لمعالجة القضايا العابرة للحدود الوطنية، وحسب المسؤول الأمريكي فإن إدارة بايدن تعتقد أن القوة الأمريكية تعتمد أيضا على التحالفات التي يجب تحديثها وتنشيطها ( خاصة بعد تضرر تلك التحالفات بسبب توجهات إدارة الرئيس السابق ترامب) فضلا عن أن القوة الدولية تتطلب إقتصادا محليا قويا بحجمه وكفاءته وبقدرته على تحسين وضع أكبر عدد من الأمريكيين كذلك ( تعزيز الجبهة الداخلية)، كما يؤكد على قناعة الإدارة الحالية بأن أمريكا لم تعد قادرة على تحمل أعباء تدخلات عسكرية وحروب طويلة الأمد ( يشير إلى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الذي رغم وصفه بالمؤلم فإنه وضع أمريكا في مأمن من الضغط الروسي وتقييد حركة أمريكا وقدرتها على المساعدة في أوكرانيا).
لا يتناول سوليفان في مقاله القضية الفلسطينية إلا عرضا، فهي ترد في إطار التحالفات التي تبنيها أمريكا ضمن تصور استراتيجي في إطار صياغة العصر الجديد، وهنا يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات:
الأولى هي أنه يقدم تشخيصا للشرق الأوسط باعتباره صار أكثر هدوءا مما كان عليه لعقود من الزمن رغم التحديات القائمة، ويصف الوضع الفلسطيني الإسرائيلي بالمتوتر، لا سيما في الضفة الغربية، ولكن في مواجهة الاحتكاكات الخطيرة، قمنا بتهدئة الأزمات في غزة واستعدنا الدبلوماسية المباشرة بين الطرفين ( الإسرائيلي والفلسطيني ) بعد سنوات من التوتر.
وهذا التشخيص يوحي بأن واشنطن كانت مطمئنة إلى ردع المقاومة في قطاع غزة وأن قدرتها على التأثير على الوضع محدودة بحيث أصبح الوضع المتفجر في الضفة الغربية هو المصدر الأساسي لما يسميه "التوتر".
الملاحظة الثانية هي أن إدارة بايدن تركز على ما تسميه " دمج المنطقة" من خلال مشاريع البنية التحتية المشتركة والشراكات الجديدة، وفي هذا الإطار يقدم سوليفان التحالف الرباعي الذي يضم أمريكا وإسرائيل والهند والإمارات العربية المتحدة كجزء من التحالفات التي تعيد من خلالها أمريكا بناء سياستها الخارجية وقوتها الدولية، ومن ضمن أهداف هذا التحالف المعروف باسم (I2U2) ربط منطقة آسيا بأوروبا بخطوط نقل تكون في منأى عن تأثير القوى المناوئة، وقد جاء في البيان الذي صدر عن اجتماع لهذا التحالف عقد في 14 جويلية 2022 " التأكيد على دعم اتفاقيات إبراهيم للتطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل والترحيب بالفرص الاقتصادية المترتبة عنها وخاصة تعزيز التعاون الاقتصادي بين الشرق الأوسط وجنوب آسيا، كما وضع البيان إسرائيل "كمركز للابتكار يربط بين شركاء جدد ونصفي الكرة الأرضية للتصدي استراتيجيا للتحديات التي تعتبر أكبر من قدرة أي دولة على مواجهتها بشكل منفرد".
الملاحظة الأخيرة تتعلق بثناء سوليفان على الاتفاق الإيراني السعودي الذي تم التوصل إليه بوساطة صينية، ويعتبر هذا الاتفاق جزء من عملية خفض التوتر، ويقدمه كمثال على أن التنافس مع الصين لا يعني عدم تقاسم بعض المصالح معها، تماما مثلما يثني على الهدنة في اليمن التي يعتبرها ثمرة من ثمار الجهود الدبلومسية الأمريكية، ومن هنا يمكن فهم التوقيت الذي اختاره ولي العهد السعودي للإعلان عن مساعي التطبيع مع إسرائيل.
هذه الإشارات قد تساعد على فهم الأثر الكبير الذي خلفته عملية طوفان الأقصى باعتبارها ضربة كبيرة تلقتها الترتيبات الأمريكية في المنطقة خاصة ما تعلق بإعادة تأهيل الدور الإسرائيلي إقليميا ودوليا، وتفسر لنا أيضا الأسباب التي تجعل بعض الأنظمة العربية تستعجل القضاء على المقاومة الفلسطينية وفرض وضع جديد في غزة حتى ولو تطلب الأمر الاستمرار في حرب الإبادة الجماعية.