سيلٌ من الأشجار في صدري
أتيتُ… أتيت
سيروا في شوارع ساعدي تَصِلوا
وغزّةُ لا تصلّي حين تشتعلُ الجراح على مآذنها
وينتقل الصباح إلى موانئها، ويكتمل الردى فيها
أتيتُ… أتيتُ
قلبي صالحٌ للشربِ
سيروا في شوارع ساعدي تَصِلوا
وغزّةُ لا تبيع البرتقال لأنه دمُها المعلَّبُ
كنتُ أهرب من أزقَّتها
وأكتب باسمها موْتي على جميزة
فتصير سيِّدةً وتحمل بي فتىً حراً
فسبحان التي أسْرَتْ بأوردتي إلى يدها
عام 1973 فوجئ الناس بغزة!
كان قائد الفدائيين، جيفارا غزة، قد استشهد كما يستشهد الأبطال، وأَجبر وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان، على القول بأن: «جيش إسرائيل يحكم غزة في النهار بينما يحكمها الفدائيون في الليل».
لكن المعجزة حصلت في المقبرة، إذ سرت شائعات بأن المقابر تتحرك وبأن الموتى\الشهداء ينهضون في الليل من أجل أن يواصلوا مقاومتهم في غزة.
هذا ما أثار محمود درويش الذي كتب قصيدته الملحمية عن غزة معلناً فيها طريقين:
الطريق الأول هو دعوة الناس إلى أن يسيروا في شوارع ساعده، أي في شوارع غزة.
الطريق الثاني هو الإعلان بأن غزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلب. فالبرتقال الذي حوله غسان كنفاني إلى رمز لفلسطين هو رمز للعلاقة بين الفلسطينيين والأرض.
إنها «أرض البرتقال الحزين» كما عنون غسان كنفاني إحدى مجموعاته القصصية. هذه العلاقة بالبرتقال هي في الأساس علاقة مدينية من راشد حسين الذي كان أول من استخدم كلمة «غيتو» في وصف الفلسطينيين في حيفا، إلى توفيق زياد، الريفي الذي شم رائحة فلسطين في البرتقال. وصولاً إلى قصيدة محمود درويش التي لا نفتقد اليوم مضمونها وكلماتها فقط، بل نفتقد حكايات الذين سينهضون من تحت الأرض ليعيدوا كتابة قصة غزة.
يستطيع المحلل أن يلاحظ انزياحاً من الرمز البرتقالي إلى الزيتون، وهذا ناجم عن سيطرة اللهجة الفلاحية على الحياة الفلسطينية. غير أنها سواء تحدثنا عن زيت الزيتون أو عن عصير البرتقال فنحن نحكي قصة أرض واحدة أشجارها هي رمز للدماء التي تسقيها كل يوم.
الآن نستطيع أن نفهم ماذا يجري في غزة.
الحقيقة أننا لن نفهم كل التفاصيل لأنك لا تستطيع أن تفهم عقلاً «بشرياً» يدير معركة ضد «بشر حيوانات». هنا ندخل في الهمجية؛ فالذين اتهموا الفدائيين بأنهم مجموعة من الإرهابيين والهمج، تصرفوا ولا يزالون يتصرفون كالقبائل البدائية.
ما هذه المقتلة التي يريدون لنا أن نبتلعها وهي ليست أكثر من جريمة. الحرب التي تخوضها إسرائيل خلف القيم الغربية «الحضارية» هي حرب إبادة. في الماضي كنا لا نجرؤ على استخدام كلمة إبادة لوصف الفعل الإسرائيلي، لكن الزمن جعل الأمور تتكشف تدريجياً لتؤكد أن التطهير العرقي التي مارسته الحركة الصهيونية عند تأسيس دولة إسرائيل لم يكن سوى بداية الاستيلاء الكامل على الأرض وطرد الشعب.
الغريب أن مؤرخاً إسرائيلياً مثل بيني موريس، اعتبر زعيماً للتيار التصحيحي في التأريخ الإسرائيلي، قام خلال الانتفاضة الثانية بانقلاب على نفسه وعلى أفكاره ودعا إلى وضع الفلسطينيين في أقفاص بصفتهم حيوانات. ربما كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أقرأ فيها مؤرخاً للحروب الحيوانية، فالحيوانات لا تعرف معنى التاريخ، وعندما يأتيك مؤرخ معلناً أنه يعرف معنى التاريخ من أقفاص الحيوانات فهذا يعني أن التاريخ قد قتل، وأن ما يجري اليوم أمام عيوننا هو إعلان لنهاية العقل والتفكير الحر.
مقاومة ما يجري في غزة من قتل وتدمير وتفجير، يعني أن الفلسطينيين لا يملكون سوى خيار واحد، وخيارهم هو المقاومة، ولتستمر هذه الحرب حتى النهاية…