يكاد المتابع للحوارات والندوات التي تُعرضُ على شاشات التلفاز، أو صفحات الجرائد والمجلاَّت أن يشكَّ في صحَّة المفاهيم التي ترسَّخت في ذهنه عبر الزَّمن، ويتساءل: أتُراهُ تلقَّى علماً مغشوشاً، أم أنَّ صناعة ـ أو بالأحرى حرفة "تبييض" ـ المفاهيم التي تروِّجُ لها الأجهزةُ الإعلاميَّة الغربيَّة و العربية أصبحت مصدرَ ربحٍ مادِّي، وطريقاً إلى النجوميَّة الزَّائفة؛ نجوميَّة يتسابقُ للحصول عليها والفوز بها أربابُ القلم والرِّيشة و"لوحة المفاتيح".
هل انتقلنا فعلاً من "تبييض" الأموال التي خرَّبت اقتصاد بلداننا إلى تبييض المفاهيم المخرِّبة للعقول والمحبِطة للأنفس؟ فقد استبيحت حرمةُ الكلمات، وانتُهِكت المفاهيم، وأضحت تُفصَّلُ حسب الحاجة، ولم يعد "المنجد" ملجأً لمن يريد أن يدقِّقَ ويتحقَّق من معانيها، حيثُ تداخلت وأصبحت أضدادها أشباهاً لها ونظائرَ. إنَّها حرفةٌ جديدة تهدفُ إلى تسويق الكلمات المعدَّلة "جينياً" لكي تدخلَ المجال التَّداولي وتتسق فيه محدثةً بذلك حالةً من فوضى المعاني لم نشهد لها مثيلاً.
أصبحَ الاحتلال تحريراً، وأصبح التَّحريرُ إرهاباً، ولم يعد الإرهاب شيئاً آخر غير الإرهاب الدِّيني، واختُزل الإرهاب الديني في الإسلام. تجري هذه المصطلحات على لسان المتحدِّثين وكأنَّهم يُلقُون قصيدةً مُبرمجة آلياً، ولا يبدو عليهم الحرج، ولماذا الحرج في هذا الزَّمن الذي انفتح فيه كلُّ شيء على كلِّ شيء، فلماذا لا تنفتح المفاهيم على بعضها؟!؛ فمنذُ زمن ليس بالبعيد كانت المفاهيم نسبيَّةً، تستمدُ حقيقتها من الإيديولوجيا التي تنسب إليها، فنقول مثلاً الحريَّةُ من منظور ماركسي أو ليبرالي أو ديني.
أمَّا الآن، وبعد انهيار الأنساق الفكريَّة المنغلقة، فقد اتخذت طابعاً إطلاقياً على الرغم من خصوصيَّة نشأتها. ليس ذلك منَّا أسفاً على انهيار الأنساق الفكريَّة المنغلقة، ولا حنيناً إلى عصر الإيديولوجيات حتى وإن كانت متعدِّدةً فإنَّها عقبةٌ أمام النَّظر والتَّأمُّل فتحجبُ بذلك الحقيقة؛ فماذا سيكون عليه الأمرُ إذا أصبحت إيديولوجية واحدةً قاهرةً ومهيمنة؟