سؤال طرحه عالم الاجتماع الأستاذ عبد اللطيف الهرماسي في كتابه " الثّورة والمحنة" الذي وقع تقديمه يوم 27 ديسمبر 2023 في المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسيات في قراءة لأستاذي علم الاجتماع " المولدي الأحمر ومنير السّعيداني" وهي في الواقع في جزء منها قراءة لقراءة الأستاذ الهرماسي لما كتباه وأنجزاه من بحوث عن أحداث الثّورة التّونسيّة إضافة لما كتبه أستاذة آخرون من علم الاجتماع.
هو إذا لقاء سوسيولوجي عن الثّورة التّونسيّة بقراءات سوسيولوجيّة متعدّدة يحاور بعضها البعض. ولعلّ أهمّ ما يلفت الانتباه في هذا التّحاور البيني ما برز من تلطّف في الخطاب واحترام متبادل رغم اختلاف وجهات النّظر في قراءة كلّ باحث لمقاربة الآخر. وهذا في حدّ ءاته يستحقّ التّنويه والاعتزاز.
في إطار مناقشة مقاربات الكتاب واطروحاته هناك سّؤال بقيت اختزنه منذ يوم 14 جانفي 2011 في علاقة بموقف عالم الاجتماع الأستاذ عبد اللطيف الهرماسي ممّا تواضع التّونسيّون على تسميته بالثورة. حيث تمنّيت لو أنّني طرحت سؤالي حضوريّا في اللقاء لولا ظرف صحيّ أقعدني عن ذلك.
أذكر جيّدا ذلك اليوم الذي كان فيه شارع بورقيبة يشتعل ثورة وكان عدد من المناضلين وأنصار الحزب الدّيمقراطي التقدّمي يقفون أمام باب المقرّ المركزي للحزب بنهج إيف نوهال ينتظرون الموقف الرّسمي للحزب من الأحداث وكيفيّة تفاعله معها وأساسا المشاركة في الاحتشاد الجماهيري أمام أبواب البناية الرّماديّة حيث كانت الجماهير ترفع شعارات جذريّة تطالب بإسقاط النّظام برمّته ردّا خطاب " فهمتكم" .
كان هناك تململ داخل مقرّ الحزب وتردّد في تقدير الموقف ثمّ وقع الاتّفاق على الالتحاق بالحراك من خلال وفد بقيادة المرحومة مي الجريبي وعصام الشّابي فكّ الله أسره.
كنت من بين الحاضرين ولم أفهم ذلك التردّد وعدم المبادرة بتصدّر المشهد رغم أنّ الحزب الدّيمقراطيّ التقدّمي ورئيسه كان أكبر حزب مؤهّل للقيام بأدوار متقدّمة لاحتضان الحراك الثّوري بل قيادته كما قاد حركة المعارضة الوطنية على امتداد عقدين وجمع حوله الطيف السّياسي والمدني والنّخبوي.
لم يكن الأستاذ الهرماسي متحمّسا للمشاركة وكان بيننا جدل حول هويّة التحرّك ونحن في قلب الشّارع، حيث كان يصرّ وهو يوجّه لنا الخطاب بكلّ الحزم الأكاديمي على أنّ هذا الحراك ليس ثورة بل مجرّد انتفاضة.
بعد هروب بن علي بدأت مواقف الحزب الدّيمقراطي التقدّمي تترى في اتّجاه فاجأ أنصاره بل صدمهم وأحدث لديهم خيبة انتظار. يكفي أن نستدلّ على تلك الصّدمة والخيبة بالشّعار الذي خطّه معتصمو القصبة على جدران الاعتصام " البيديبي pdp والتّجديد خانوا دمك يا شهيد" وقد رفع ذلك الشّعار في عدد من التحرّكات على خلفيّة مشاركة الحزب في حكومة محمّد الغنوشي التي اعتبرها المعتصمون خيانة للثّورة.
وممّا وقع تداوله وقتها أنّ بن علي قبل هروبه التقى برئيس الحزب وسياسيّين آخرين في إطار مبادرة سياسيّة لاحتواء الأوضاع المتفجّرة وامتصاص غضب المنتفضين وإنقاذ ما بقي من النّظام القائم، حيث يعهد في هذه المبادرة للأستاذ نجيب الشّابي بترأّس حكومة انتقاليّة تفتح الباب لتغيير ديمقراطيّ تحت مظلّة السّلطة القائمة، وهذا يتطابق مع بيان 9 جانفي 2011 الذي طالب فيه الحزب باستقالة كامل الحكومة وتكوين حكومة إنقاذ وطني تكون المعارضة طرفا فيها وتكون مهمّتها الإعداد لانتخابات عامّة مبكّرة.
ثمّ تواترت المواقف السياسيّة التي تعبّر عن التوجّهات والتّحالفات الجديدة للحزب التي افقدته هويّته الأولى التي كانت بين الثوريّة والمعارضة الجذريّة …
في خضمّ كلّ ذلك سؤالي لعالم الاجتماع الذي أقرّ هو نفسه في عرض الكتاب بما أشار إليه مقدّماه " الأستاذان المولدي الأحمر ومنير السّعيداني" من تداخل بين العلمي والسّياسي لجمع الكاتب بين قبّعتي الحزبي والأكاديمي:
إلى أيّ مدى تأثّر حكمه على حراك الثّورة برؤية الحزب الذي ينتمي إليه ولا يزال وبتوجّهاته وتحالفاته وخياراته السياسيّة والحزبيّة؟
وهو سؤال يتجاوز الكتاب وما حواه من قراءة ومقاربات إلى كتب أخرى ينتمي مؤلّفوها لاختصاصات إنسانيّة متعدّدة وهم يجمعون بين التوجه السّياسي والأكاديمي تناولت حراك الثّورة وما تلاه من مسار انتقاليّ، حيث نسائلهم:
إلى أيّ مدى يمكن اعتبار هذه المؤلّفات تكييفا بحثيّا لتوجهات سياسيّة معلنة أو ثاوية في ذات الباحث تحاول بناء سرديّات تتلاءم مع قناعاته ومواقفه وتوجهاته؟
كلّ هذه الملاحظات والتّساؤلات التي طرحناها على هامش كتاب الثّورة والمحنة للأستاذ الهرماسي لا تنفي الجهد الأكاديميّ البارز في قراءة حراك الثّورة والانتقال الدّيمقراطي من مدخل سوسيولوجي ذي بعد نقدي تأويلي.