سيناريوهات ما بعد طوفان الأقصى

مقدمة:

تشترط الدراسات المستقبلية للظواهر السياسية بشكل خاص والاجتماعية والاقتصادية بشكل عام التمييز بين الحدث Event، وبين الاتجاه الفرعي Sub-trend، وبين الاتجاه Trend، وبين الاتجاه الأعظم Mega-trend.[2] ثم هناك مسألتان لا بدّ من مراعاتهما في هذا السياق وهما: نقاط التحول Turning Points، أي الحدث الذي يفرض تغيرات تؤدي لتحول جذري في مسار الاتجاه الأعظم بشكل رئيسي؛ ومتغير البجعة السوداء Black Swan، أي الحدث غير المتوقع والمفاجئ، والذي يصيب مركز الظاهرة ويؤدي إلى تداعيات عميقة.

ويختلف متغير البجعة السوداء عن نقطة التحول في أن نقاط التحول يجري إدراجها في الاحتمالات، أما البجعة السوداء فهي التغير الذي لم يكن في الحسبان من الأساس. فمثلاً تولي أنور السادات الحكم في مصر كان نقطة تحول في السياسة المصرية، لكن مقتله كان بجعة سوداء.

استناداً إلى هذه المقدمة، فإن استشراف مآلات وتداعيات طوفان الأقصى المستقبلية يجب أن يتم من خلال إدراجها في الاتجاه الأعظم للصراع العربي الصهيوني، وهو ما يستدعي مناقشة ثلاث خطوات هي:

1. تحديد الهدف الاستراتيجي الأعلى لكل طرف من أطراف الصراع المركزية وهي: فلسطين، و”إسرائيل”، والولايات المتحدة، ودول الجوار العربي، وبقية المجتمع الدولي.

2. تحديد الاتجاه الأعظم للصراع.

3. سيناريوهات الاتجاه الأعظم وتشمل:


• الاستمرار في الاتجاه الأعظم.

• التحول الجزئي في الاتجاه الأعظم.

• تشكل تدريجي لاتجاه أعظم بديل.

أولاً: تحديد الأهداف الاستراتيجية لأطراف الصراع:

لكي نربط بين الخطوات الإجرائية للتحليل تباعاً، لا بدّ من خطوة أولى مهمة وهي تحديد الأهداف الاستراتيجية العليا لأطراف الصراع، وهو ما يمكننا تلخيصه في الآتي:

1. فلسطين:

إنجاز الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والمتمثلة في بُعدين هما الأرض والسكان (مواطنين ولاجئين).

2. “إسرائيل”:

أ. الاحتفاظ بأكبر قدر من المساحة من أراضي الضفة الغربية والقدس، بأقل قدر ممكن من السكان الفلسطينيين.

ب. اجتثاث أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة الفلسطينية أو العربية المعادية لـ”إسرائيل”.

ج. العمل على منع أي تطور عربي قد يشكل تهديداً مستقبلياً لـ”إسرائيل”.

3. الولايات المتحدة:

أ. إنجاز تسوية تضمن لـ”إسرائيل” أكبر قدر من الضمانات الأمنية.

ب. توظيف المنطقة في إدارة صراعاتها الدولية.

4. دول الجوار العربي:

الأمن الداخلي: القبول بأيّ تسويات لا تؤثر على استقرار النظام السياسي في الدولة.

5. المجتمع الدولي:

تحقيق تسوية سياسية تلجم الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية السلبية للنزاع العربي الإسرائيلي على الشؤون الدولية.

ثانياً: تحديد الاتجاه الأعظم للصراع العربي الصهيوني:

يشترط الاستشراف المستقبلي التخلص من ثغرتين في التحليل التقليدي، الأولى تحييد تام للتفكير الرغبي (الرغائبي) Wishful thinking من ناحية، ومن ناحية ثانية التخلص من عدم الاتساق المعرفي Cognitive Dissonance القائم على سيطرة فكرة معينة على الفرد، تجعله يحاول تطويع وتفسير أيّ أفكار مناقضة لفكرته المسيطرة، بتحايلات ذهنية تُشعره بالاتساق في منظومته المعرفية من ناحية، والاتساق مع الأفكار السائدة في السياق الاجتماعي من ناحية ثانية.[3]

استناداً لما سبق، يشير رصد المسار العام للصراع العربي الصهيوني منذ سنة 1948 إلى تبلور الاتجاه الأعظم عبر عدد من المراحل على النحو التالي:

المرحلة الأولى 1948–1967:

اتَّسمت هذه المرحلة بسيطرة المنظور الصفري للصراع (أي اعتبار أي مكسب لأحد الأطراف هو خسارة موازية للطرف الآخر، كما أن حجم المصالح المشتركة بين الطرفين تدور حول مستوى الصفر)، ففي هذه الفترة كان الموقف العربي الرسمي والشعبي هو رفض وجود “إسرائيل” رفضاً تاماً، واعتبرت الحالة بين الطرفين هي “خطوط هدنة”، أي أنها لا تعني إلا وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار، ولا تعد حدوداً دولية طبقاً للقانون الدولي، ولا تعني انتهاء حالة الحرب بين الطرفين. وهنا لا بدّ من التوقف عند توصيف الحالة التي كانت قائمة بين العرب و”إسرائيل”، فهناك أربعة مصطلحات سائدة يجب توضيح التباين بينها وهي:[4]

1. الهدنة Truce: هي وقف مؤقت وقصير وغير رسمي للقتال، وعادةً ما يتم ترتيبها محلياً مع السماح لكل جانب ببعض الوقت لإجلاء الضحايا من ساحة المعركة، ولا تشير بالضرورة إلى أي استعداد لتسوية الصراع.

2. وقف الأعمال العدائية cessation of hostilities: وهو وقف أوسع نطاقاً وأكثر رسمية من الهدنة، وهو يعني اتفاق جزئي “لتعليق إطلاق النار”، وغالباً ما يكون بداية لعملية سلام أوسع، لكنه مؤقت وغير ملزم، وفي حالة تعدد أطراف الصراع قد ينطبق الوقف على بعض المعارضين فقط.

3. وقف إطلاق النار cease-fire: اتفاق يتم التفاوض عليه لوقف الأعمال العدائية واتخاذ خطوات أخرى لتهدئة الأمور، مثل سحب الأسلحة الثقيلة، أو تحديد “خط أخضر” أو منطقة منزوعة السلاح للفصل بين القوات المتعارضة، وعادةً يكون الاتفاق ملزماً، ويستمر لفترة من الوقت حتى لو وقعت بعض الانتهاكات، لكنه لا ينهي الصراع، بل يوقفه فقط.

4. الوقف الدائم والشامل للقتال armistice: اتفاق رسمي لوقف جميع العمليات العسكرية في الصراع بشكل دائم، فهو ينهي الحرب ويفتح المجال للتفاوض على معاهدة سلام، والتصديق عليها مع الالتزام في أثناء التفاوض بالتوقف عن محاولة تسوية خلافاتهما بالأدوات العسكرية.

والملاحظ أن المرحلة الأولى من الصراع 1948-1967 كانت تعني “هدنة” بالمعنى الذي أشرنا له في التعريف بكل مصطلح، فهو لا يعني إلا الوقف المؤقت للعمل العسكري، ولا يتضمن التزاماً بتسوية سلمية.

المرحلة الثانية 1967–1973:

شكّلت حرب حزيران/ يونيو 1967 نقطة تحول جذرية في الموقف العربي، وتمثل التحول في توجّه أولي نحو المنظور غير الصفري للصراع والذي تمثل بقبول قرار 242، وهو ما يعني الإقرار بحق “إسرائيل” في الوجود، واعتبار حدود الهدنة التي كانت في المرحلة الأولى حدوداً دولية بين الطرفين مع استمرار اعتبار حدود 1967 حدوداً غير مقبولة، لكن هذا التحول له دلالات عميقة في وضع الأسس للتعامل مع “إسرائيل” كجزء من البناء الإقليمي للمنطقة، على الرغم من أيّ خلافات معها حول أيّ قضية من القضايا، لأنه انطوى على الأخذ بمفهوم “وقف الأعمال العدائية ” دون إلزام.

المرحلة الثالثة 1973–1977:

شكَّلت حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 مدخلاً لتعميق المنظور غير الصفري بقبول قرار 338 (الذي يعزز القبول بقرار 242) مضافاً له القبول باتفاقيات الفصل بين القوات في سيناء والجولان، وهنا بدأ يغيب مصطلح الهدنة ويتسع ليشمل وقف الأعمال العدائية، ويقترب من الحالة التي يعبر عنها مصطلح “وقف إطلاق النار”، والذي يشي في مضمونه بالاستعداد للدخول في نشاطات ديبلوماسية قد تُفضي لتسوية معينة. وتكرس هذا التوجه بزيارة السادات إلى القدس إلقاء خطاب سياسي في الكنيست Knesset الإسرائيلي، وهو ما يعني تحويل الصراع Conflict إلى نزاع Dispute؛ ويمثِّل الصراع خلافاً يُدار بوسائل غير سلمية، بينما النزاع يمثِّل خلافاً تجري تسويته بوسائل سلمية، وهو ما يؤسس للمرحلة القادمة من تعميق التحول والتبني للمنظور غير الصفري.

المرحلة الرابعة 1979–1994:

في هذه المرحلة انتقل المنظور غير الصفري من المستوى النظري والقانوني إلى مستوى الممارسة السياسية التطبيقية من خلال خطوتين هما:

1. المعاهدة المصرية الإسرائيلية والتي أقرَّت فيها أكبر وأهم دولة عربية بوجود قانوني وشرعي بـ”إسرائيل”، وأصبح التعامل مع “إسرائيل” تعاملاً لا يختلف عن التعامل مع أي دولة أخرى، وأصبح هناك تعاون وتجارة مشتركة وسياحة وزيارات ديبلوماسية لا تنقطع…إلخ، وعليه استقر المنظور غير الصفري ليصبح هو قاعدة العلاقات العربية الإسرائيلية، وهو ما يعني الانتقال إلى مرحلة المصطلح الرابع وهو الوقف الشامل والدائم للقتال.

2. أدى انهيار الاتحاد السوفييتي، وتبني مصر للمنظور غير الصفري بخروجها من جبهة الصراع مع “إسرائيل”، ثم الاضطراب الواسع في العراق وتحطيم قدراته العسكرية في سلسلة حروب مع إيران والولايات المتحدة، إلى انضمام الممثل الشرعي لفلسطين (منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)) إلى المنظور غير الصفري عبر اتفاقية أوسلو Oslo Accord سنة 1993، وهو ما يعني أن المنظور غير الصفري أصبح اتجاهاً أعظم يضغط وبقوة على بقية الأطراف لتبنيه، وهو ما تجسد في اللحاق الأردني السريع بقاطرة المنظور غير الصفري بمعاهدة وادي عربة سنة 1994، أي بعد عام تقريباً على اتفاق أوسلو، وهو ما جعل الاتجاه الاعظم أكثر قوة وأكثر ضغطاً على الأطراف العربية الأخرى.

المرحلة الخامسة 1994–2023:

شكَّلت المرحلة الرابعة قاعدة راسخة لتدفق الاتجاه الأعظم المتمثل في المنظور غير الصفري إلى كافة التضاريس السياسية العربية، وشكَّلت المبادرة العربية التي طرحتها السعودية سنة 2002 اكتمالاً نظرياً للقبول العربي بالمنظور الصفري، إذْ تضمنت المبادرة العربية “الاعتراف والتطبيع العربي الكامل بـ”إسرائيل”” مقابل دولة فلسطينية، وبدأ تطبيق الاعتراف واللقاءات السرية والعلنية والمنفردة والجماعية بالنظير الإسرائيلي دون قيام الدولة الفلسطينية، إلى أن بدأ توالي عمليات التطبيع مع “إسرائيل” سنة 1999 باعتراف موريتانيا بـ”إسرائيل” ديبلوماسياً (وإن عادت وتراجعت عنه سنة 2010)، ثم تسارع التطبيع سنة 2020 إلى كلّ من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وهو ما يشير إلى أن المنظور غير الصفري يكتسب زخماً متواصلاً.

ثالثاً: ثغرات في الاتجاه الأعظم:

تشكَّلت خلال الفترة التي عرضناها اتجاهات فرعية بعضها تنامى إلى حدّ الاتجاه المستقر، وبعضها توارى جزئياً، سواء في المستوى المحلي (فلسطيني/ إسرائيلي)، أم الإقليمي (شرق أوسطي/عربي) أم الدولي (الحراك القطبي صعوداً وهبوطاً)، ولكي لا نغرق في الأحداث والاتجاهات الفرعية العابرة، نتوقف عند الاتجاهات التي تأبى التراجع وتقف في وجه الاتجاه الأعظم وهي:

1. انتقال إدارة الصراع مع “إسرائيل” من “الدول” إلى “الحركات الشعبية المسلحة”:

فإلى جوار الاتجاه الاعظم الذي عرضناه والذي يكشف حلقات الخروج المتتالي “للدول” من الصراع (مصر، منظمة التحرير الفلسطينية، الأردن، دول اتفاق أبراهام…إلخ)، ظهر اتجاه معاكس يتمثل في بروز قوى شعبية تشبثت بخيار المقاومة المسلحة، ففي الوقت الذي خرجت الدول تباعاً من دائرة الصراع، تبلورت قوى سياسية شعبية مسلحة ومتشبثة بخيار الكفاح المسلح، فإلى جانب حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة الأولى في الفترة 1981-1965 (فتح، والجبهة الشعبية، والصاعقة،…إلخ)، ظهرت حركات مسلحة جديدة مثل الجهاد الاسلامي (1981)، ثم ظهر حزب الله في لبنان (1982)، ثم حركة حماس (1987)، ثم حركة أنصار الله في اليمن (2004)، ثم الحشد الشعبي في العراق (2014)، وتبنت هذه القوى مواصلة المواجهة. وتلقى هذه الحركات مساندة من بعض الدول، وتولت إدارة الصراع مع “إسرائيل” بشكل تدريجي، وأسهمت مجموعة عوامل في تنامي زخم هذه الحركات:

أ. قيام الثورة الإيرانية سنة 1979 وتبنيها موقفاً معاكساً للتوجهات العربية الرسمية، ومساندتها لهذا الاتجاه ومن يمثله، وهو ما يعني شرخاً في الاتجاه الأعظم غير الصفري.

ب. الحاضنة الشعبية الرافضة لأيّ علاقة أو تطبيع أو تقديم تنازلات في فلسطين، وهو أمر تدل عليه استطلاعات الرأي العام العربي التي أجرتها هيئات غربية وعربية، بل إن المعارضة للعلاقة مع “إسرائيل” تتزايد،[5] وهو ما يعني إبقاء المستقبل مفتوحاً أمام احتمال التضييق على الاتجاه غير الصفري.

ج. الإرث الثقافي الديني ودوره في تشكيل صورة اليهود في الذهن العربي، وهو اتجاه يغذي وبقوة أنصار الاتجاه الأعظم الصفري.

د. الفشل التام في تحقيق تسوية سياسية بالوسائل السلمية، واستمرار الاستيطان وتهديد المسجد الأقصى وكافة السياسات الإسرائيلية ذات التوجه السلبي، وهو ما يجعل الاتجاه غير الصفري يحمل بذور فنائه في ذاته.

هـ. تزايد التيار الديني المتشدد في المؤسسة السياسية الإسرائيلية، وهي ظاهرة تعزز كل المعطيات السابقة لصالح المنظور الصفري.

2. تحولات على المستوى الدولي:

ثمة عوامل عمَّقت ثغرات الاتجاه الأعظم الذي أشرنا له، وأهم هذه العوامل هي:

أ. لقد سبق وأشرنا في دراسة كمية إلى وجود علاقة طردية خطية بين نسبة التأييد الدولي للحقوق الفلسطينية وبين استمرار تصاعد المقاومة ضد “إسرائيل”، وتعززت هذه الفرضية بشكل قاطع مع طوفان الأقصى، كما أوضحنا ذلك في دراسة أخرى،[6] ويكفي ملاحظة ذلك في تزايد التأييد للموقف الفلسطيني في قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة خلال معركة طوفان الأقصى كما يتضح من الجدول التالي:[7]

ب. على الرغم من ضيق الشق في جدار العلاقة الإسرائيلية الأمريكية لأسباب عديدة، إلا أن التراجع الأمريكي في المكانة الدولية بدأ يأخذ دوره في بروز تعقيدات في شبكة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، إذ يبدو أن التغير في المكانة الأمريكية في النظام الدولي نحو الأسوأ، يفرض على السياسة الخارجية الأمريكية أنماط تكيّف ستمس العلاقة مع “إسرائيل” بمستوى أو بآخر، وقد أشرنا في دراسة سابقة إلى مؤشرات التراجع الأمريكية والتراجع النسبي في المكانة الاستراتيجية للشرق الأوسط في أولويات السياسة الأمريكية،[9] الأمر الذي سينعكس على مدى أهمية الوظيفة الإسرائيلية في نطاق استراتيجية الولايات المتحدة، مقابل تسارع واضح في مؤشرات القوة للقوى الدولية الصاعدة خصوصاً الصين، وهو ما يشكل مكسباً استراتيجياً لقوى المقاومة على المدى المتوسط والبعيد، ناهيك عن التغير التدريجي في الرأي العام الأمريكي بعد طوفان الأقصى، خصوصاً بين الديموقراطيين وبين الشباب الأمريكي، مما قد يكون له آثار مستقبلية.

ج. مواجهة “إسرائيل” لخيارين أحلاهما مر، فالمجتمع الدولي بما فيه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وأغلب بقية دول العالم تؤيد مشروع حلّ الدولتين، وهو ما سيضع “إسرائيل” أمام خيارَين هما إما القبول بهذا الحل، وهو ما ينطوي على مخاطرة كبيرة بصراع داخلي عميق بين القوى السياسية المختلفة داخل المجتمع الإسرائيلي، إلى جانب صراع مع مئات آلاف المستوطنين في الضفة الغربية، أو الذهاب إلى الخيار الثاني وهو رفض الحل، مما سيجعل “إسرائيل” في موقف دولي حرج للغاية قد يترتب عليه ضغوط دولية على غرار ما جرى مع جنوب إفريقيا.

رابعاً: تداعيات طوفان الأقصى:

شكَّلت عملية طوفان الأقصى في قطاع غزة نقطة تحول استراتيجية فعلية لا افتراضية، وكرَّست العملية تزايد الاتجاه الفرعي في المسار التاريخي الفلسطيني، والمتمثل في انتقال المواجهة من يد الجيوش الرسمية إلى يد الحركات الشعبية المسلحة والمسنودة بتأييد شعبي عربي واسع، كما كرَّست تغيراً إيجابياً في الرأي العام الدولي كان يسير بقدر من البطء ولكن الطوفان سارعه وغذاه ليصل إلى مجتمعات الدول الأكثر عداء للحقوق الفلسطينية، ناهيك عن أن العملية فرضت على العقل الإسرائيلي إعادة النظر في أدبيات التفاؤل السياسي بمستقبل “إسرائيل” التي روَّج لها اليمين الصهيوني.

لكن تداعيات عملية الطوفان ستحمل معها للعامين القادمين مسارات متعددة وتنطوي على تداعيات لا بدّ من التنبه لها، والتفكير في إعداد الخطط الاستراتيجية للتعامل معها:

المسار الأول: المسار الفلسطيني:

ستواجه القادة والمجتمع الفلسطيني الهموم التالية للعامين القادمين:

1. إعادة تأهيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة:

لقد أدى العدوان الإسرائيلي إلى التدمير الكلي أو الجزئي لأكثر من ربع مليون مسكن أو مركز تجاري أو مؤسسة رسمية أو خدمية شعبية أو رسمية (المرافق الطبية من مستشفيات وصيدليات، والمدارس والجامعات والمساجد)، ومئات الكيلومترات من الطرق البرية، ومساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، وتدمير مصادر المياه وتسرب شبكات الصرف الصحي، إلى جانب الخسائر البشرية التي جعلت مئات آلاف الأطفال والنساء والمعاقين جسدياً أو نفسياً دون معيل، إلى جانب توقف مؤسسات الإنتاج بشكل شبه تام.

يترتب على ذلك أن الهم المباشر والضروري سيكون في إعادة الحياة في قطاع غزة إلى طبيعتها التي كانت سائدة على أقل تقدير قبل العدوان، وهو ما سيواجه قدراً من العراقيل متعلقة بتوفير الأموال والمواد لترميم ومعالجة كل ما ذكرناه، وطبقاً لتقديرات أولية خلال الشهرين الأوليين للمعركة فإن المبلغ المطلوب سيتجاوز الخمسين مليار دولار، ولا شكّ أن استمرار المعركة سيرفع المبلغ لرقم أعلى،[10] وللحصول على هذا المبلغ سيتطلب الأمر مؤتمرات دولية لجمعه، كما سيتطلب الانتباه إلى ما يلي:


• قد تصل المساعدات المادية في وقت مبكر، لكن الأموال ستأخذ وقتاً قد يطول وقد يقصر طبقاً لدرجة الاستجابة له المرتبط بمواقف الدول المانحة، ولعل نتائج المؤتمر الإنساني الدولي الذي عُقد في باريس في 2023/11/9، ودور لجنة المتابعة له في 2023/11/6، يشيران إلى أن جمع مبالغ إعادة التأهيل لن يكون يسيراً بل يبدو أنه سيكون موضع “ابتزاز للمقاومة”.[11]

• إن الدول العربية الأكثر قدرة على تقديم المساعدات هي الأقل تناغماً مع توجهات المقاومة الفلسطينية، وهو ما سيدفعها إلى وضع شروط سياسية (من خلف الستار) لتقديم المساعدة، مثل أن يتم تسليم الأموال إلى جهة دولية أو اقليمية أو السلطة الفلسطينية، وإخضاع الصرف للرقابة لضمان عدم توظيف الأموال في مؤسسات المقاومة أو لمساعدة عائلات المقاومين.

• إن الولايات المتحدة والدول الأوروبية واليابان ستفرض شروطاً سياسية وإدارية على مساعداتها، وستكون دالة تلك الشروط هو إضعاف المقاومة من كل الوجوه، ووضعها أمام خيارات سياسية صعبة ودقيقة.

• إن المساعدات الصينية والروسية قد تكون دون شروط سياسية، لكنها—وخصوصاً الروسية—ستكون متواضعة قياساً لحجم المبالغ المطلوبة، ونظراً للظروف الحالية في روسيا.

• قد تربط مصر بين مرور المساعدات والمواد المطلوبة لإعادة البناء والتأهيل الاجتماعي، أن يكون لشركاتها نصيب وافر في مشروعات إعادة التأهيل، خصوصاً المؤسسات التابعة للجيش المصري (على غرار ما جرى بعد العدوان الإسرائيلي في سنة 2021).[12]

• ستواجه حركة المقاومة تنازعاً في الاختصاص بينها وبين السلطة الفلسطينية خصوصاً في مجال تلقي أموال المساعدات وكيفية توزيعها وأولويات الصرف منها.

2. تحديد الموقف السياسي من المبادرات والقرارات الدولية:

وتحديداً تلك التي ستعقب وقف إطلاق النار، خصوصاً مفاوضات الأسرى والرهائن التي قد تطول أو تقصر طبقاً لمعطيات ميدان المعركة، وقد تواجه المقاومة ضغوطاً وإغراءات في معالجة هذا الملف، وستحاول “إسرائيل” والولايات المتحدة وبعض الدول العربية الضغط على المقاومة للتنازل عن فكرة “تبييض” السجون من المعتقلين الفلسطينيين، وسيتم ربط بعض هذه الجوانب بالمساعدات من باب الغواية.

المسار الثاني: الموقف الإقليمي:

وينقسم الموقف الإقليمي إلى بُعدين:

1. الموقف العربي: ويتمثل في جوهره في بُعدين هما الموقف المصري وموقف محور المقاومة، ولا يبدو أن الموقف المصري سيمسّه أي تغيّر جوهري، بينما قد يخبو دور محور المقاومة أو يبقى على حاله طبقاً للنتائج الميدانية في قطاع غزة.

2. دور إيران وتركيا: استناداً للواقع الميداني فإن كلا البلدين سيعمل على بقاء موقفه، وهو التأييد العلني للحقوق الفلسطينية مع فارق أساسي هو استمرار الدعم الإيراني للمقاومة دون الدخول المباشر في أيّ مواجهة لاحقة، إلا إذا وقع تطور كبير يصيب إيران ذاتها. أما تركيا فسياق سياستها لن يتجاوز حدود النقد العلني للسياسة الإسرائيلية، مع بقاء علاقاتها التجارية والسياسية معها دون تغيير عملي.

المسار الثالث: المسار الدولي:

ويمكن تحديد الاتجاه المحتمل في الآتي:

عزَّزت عملية طوفان الأقصى من القناعة بين القوى الكبرى خصوصاً الولايات المتحدة بضرورة إيجاد تسوية سلمية، ولعل حلّ الدولتين هو الحل الذي تؤيده أغلب دول العالم، وهو ما سيضع “إسرائيل” في موقف حرج وأمام خيارين (كما لاحظنا سابقاً):

1. القبول بحل الدولتين (وقد تعمل على تكييفه بشكل يخدم أمنها)، مع احتمال أن يفجر هذا القبول صراعاً بين القوى السياسية في داخل “إسرائيل”، وقد يصل إلى قدر من العنف.

2. رفض حلّ الدولتين وهو ما سيزيد من تقلص مساحة التأييد الشعبي والدولي لـ”إسرائيل”، وسيضع الدول العربية التي تُطبِّع مع “إسرائيل” في موقف أكثر حرجاً، وبالتالي ستزداد ظاهرة انتقال إدارة الصراع من يد الدول إلى يد الحركات العربية المسلحة.

إن بناء مصفوفة من التأثيرات المتبادلة Cross Impact Martix بين المستويات الثلاثة وتداعياتها يعطي مؤشراً أولياً على استمرار الصراع، لكن النتائج المباشرة لمعركة طوفان الأقصى تؤسس خلال العامين القادمين لما بعدهما، أي أن نتائج المعركة العسكرية والإدارة العقلانية من طرف المقاومة للصراع للمرحلة المباشرة بعد وقف القتال سيبقى هو الطاغي في العامين القادمين، ولكي يعود القطاع إلى حياته الطبيعية على أقل تقدير فإن الأمر قد يستغرق أكثر من العامين القادمين.


الهوامش

[1] وليد عبد الحي : خبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية، أستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك في الأردن سابقاً، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وهو عضو سابق في مجلس أمناء جامعة الزيتونة في الأردن، وجامعة إربد الأهلية، والمركز الوطني لحقوق الإنسان وديوان المظالم، والمجلس الأعلى للإعلام. ألَّف 37 كتاباً، يتركز معظمها في الدراسات المستقبلية من الناحيتين النظرية والتطبيقية، ونُشر له نحو 120 بحثاً في المجلات العلمية المحكّمة.

[2] يُقصد بالحدث أيّ واقعة سياسية؛ انتخاب، أو اغتيال، أو فوز، أو تغيير وزاري، أو اشتباك عسكري، أو قطع علاقات ديبلوماسية، أو اتفاق تجاري، أو فرض حصار، أو معاهدة “سلام”…إلخ. أما الاتجاه الفرعي فهو مجموعة أحداث تتكرر في الميدان نفسه، مثل تكرار قطع العلاقات ثم عودتها (الميدان الديبلوماسي)، أو تكرار اشتباكات حدودية (ميدان عسكري)،…إلخ. أما الاتجاه فهو مجموعة اتجاهات فرعية يصيبها التكرار ولكن في الاتجاه نفسه؛ أي أن العلاقة قد تكون بين طرفين علاقة خطية Linear (أي تتحسن باستمرار، أو تسوء باستمرار)، وقد تكون غير خطية non linear (أي تتذبذب تقدماً وتراجعاً من مرحلة لأخرى)، ومجموع الاتجاهات التي تتسق حركيتها في اتجاه واحد (خطي أو غير خطي) هو ما يسمى الاتجاه الأعظم. لمزيد من التفاصيل انظر: وليد عبد الحي، مناهج الدراسات المستقبلية وتطبيقاتها في العالم العربي (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2007)، ص 11-18.

[3] Sebastian Cancino Montecinos, New Perspectives on Cognitive Dissonance Theory (Stockholm: Stockholm University, 2020), http://www.diva-portal.org/smash/get/diva2:1411016/FULLTEXT01.pdf

[4] ثمة جدل واسع حول هذه المصطلحات بين القانونيين، خصوصاً أن دلالات هذه المصطلحات تغيرت عبر التاريخ، لكن الفقه الدولي المعاصر أخذ يميل لبعض التمييز بينها، انظر التفاصيل في:
Sydney D. Bailey, “Cease-Fires, Truces, and Armistices in the Practice of the UN Security Council,” The American Journal of International Law, vol. 71, no. 3, July 1977, pp. 461–469; Truce, Cease-Fire and Armistice: The Legal Nuances, The New York Times newspaper, 22/2/2016, https://www.nytimes.com/2016/02/23/world/middleeast/truce-cease-fire-and-armistice-the-legal-nuances.html; Marika Sosnowski, Redefining Ceasefires (Cambridge University Press, 2023), pp. 13–22; and Margaux Pinaud, “Pathways to Peace? A Mixed Methods Study of the Role of Civil Society in Ceasefire Monitoring” (PhD dissertation, University of Manchester, Faculty of Humanities, School of Arts, Languages and Cultures, 2021),
https://pure.manchester.ac.uk/ws/portalfiles/portal/196052041/FULL_TEXT.PDF

[5] ديلان كاسين وديفيد بولوك، الآراء في مختلف الدول حول التطبيع العربي الإسرائيلي و”اتفاقيات إبراهيم”، موقع منتدى فكرة، معهد واشنطن، 15/7/2022، انظر:
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alara-fy-mkhtlf-aldwl-hwl-alttby-alrby-alasrayyly-watfaqyat-abrahym؛ و”المؤشر العربي 2019/2020 في نقاط،” موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تشرين الأول/ أكتوبر 2020، في: https://www.dohainstitute.org/ar/Lists/ACRPS-PDFDocumentLibrary/Arab-Opinion-Index-2019-2020-Inbreef-Arabic-Version.pdf؛ و يوئيل غوزانسكي وتومر باراك، ما رأي العرب؟.. تحليل استطلاعات الرأي العام في الدول العربية، ترجمة موقع حضارات نقلاً عن معهد بحوث الأمن القومي، 4/11/2023، في: https://hadarat.net/post/42039

[6] قارن الدراستين: “القضية الفلسطينية والوضع الدولي،” في: محسن محمد صالح (محرر)، التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2018-2019 (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2020)، ص 397-398؛ ووليد عبد الحي، تحولات الرأي العام الدولي وطوفان الأقصى، موقع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 4/12/2023، في: https://www.alzaytouna.net

[7] انظر التفاصيل في:
UN News (@UN_News_Centre), site of Twitter, 27/10/2023, https://twitter.com/UN_News_Centre/status/1717992371906839005/photo/2; and US vetoes UN resolution calling for Gaza ceasefire, site of Al Jazeera, 8/12/2023, https://www.aljazeera.com/news/2023/12/8/antonio-guterres-urges-un-security-council-to-push-for-gaza-ceasefire

[8] نقلت أغلب وكالات الأنباء أن عدد المؤيدين كان 120، والحقيقة أنه وقع خطأ تقني تمت معالجته، وأصبح الرقم 121، انظر:
UN General Assembly adopts Gaza resolution calling for immediate and sustained ‘humanitarian truce’, site of United Nations (UN), 26/10/2023, https://news.un.org/en/story/2023/10/1142847

[9] وليد عبد الحي، تيار التراجع الأمريكي في المكانة الدولية ومأزق الخيارات الاستراتيجية العربية والإسرائيلية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 4/11/2020.

[10] Adnan Abdul Razzaq, Rebuilding Gaza: The huge cost of Israel’s devastating war, site of The New Arab, 27/11/2023,
https://www.newarab.com/analysis/rebuilding-gaza-huge-cost-israels-devastating-war; UN report warns war has already set Gaza and West Bank economy back more than a decade, site of Cable News Network (CNN), 9/11/2023, https://edition.cnn.com/2023/11/09/middleeast/un-report-gaza-economic-impact-poverty/index.html
وانظر أيضاً: دويتشه فيله: من سيدفع تكاليف إعادة بناء قطاع غزة بعد تدميره؟، موقع عربي 21، 15/12/2023، في: https://arabi21.com

[11] انطلاق “مؤتمر إنساني” بشأن غزة في فرنسا.. وماكرون يأمل بـ”نتائج ملموسة”، موقع الحرة، 9/11/2023، انظر: https://www.alhurra.com

[12] مع ترقّب جهود إعادة إعمار غزة.. كيف ستفي مصر بوعد الـ500 مليون دولار؟، موقع الجزيرة.نت، 23/5/2021، انظر: https://www.aljazeera.netA

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات