هل يستطيع العالم أن يعيش بلا قيم؟ كيف نعيش إذا لم نكن نمتلك ثوابت أخلاقية ندافع بها عن أنفسنا وعن حياتنا وعن مبررات وجودنا؟ نحن اليوم أمام مشهد لا سابق له، القيم كلها تتحطم أمام عيوننا ونحن عاجزون عن لملمتها. تعالوا نلملم القيم عن أرض التاريخ، وعن أرض غزة كي نستطيع أن نعيش.
كيف نلملم القيم؟
ننحني على أرض غزة، على الدمار المرئي فوق أرضها، وعلى أعماقها التي تصطخب فيها الحياة. لم تعد أعماق الأرض قبوراً فقط، بل صارت مكاناً للولادات أيضاً. ننحني على الولادات ونحيا معها مثلما متنا معها. ونسأل، أين تقع غزة؟ فوق الأرض أم تحت الأرض؟ هنا أم هناك؟
فوق الأرض شاهدنا الخراب، ومتنا مع ألوف الضحايا تحت الأنقاض، لكننا كنا أيضاً شهوداً على الصمود الذي حوّل الأنقاض إلى بيوت يعيش فيها الناس لأنهم قرروا ألّا يخرجوا من المكان، وأن يتماهوا مع أرضهم.
لكن أعجوبة غزة اتخذت شكلها المدهش في صفقة تبادل الأسرى، فقد خرج الأسرى من تحت الأرض، وبذا أعلنت المقاومة أن الذي يملك تحت الأرض، يملك الأرض كلها.
غزة تحت الأرض تكتب اليوم جغرافيا العرب الحديثة. ففي الأعماق تموج صور الحياة بأشكالها الجديدة الطالعة من إرادة المقاومة ومن الإصرار على صناعة الحرية الحديثة. غزة تحت الأرض تموج فيها صورة الحياة الحقيقية، لا غزة المحطمة والمدمرة والميتة. غزة تحت الأرض تحمل مشعل عودة عقارب التاريخ إلى الوراء ليعود الحقّ إلى أهله، وتعود فلسطين إلى اسمها الذي هو فلسطين وستظل فلسطين.
وكيف نصل إلى غزة وهي محاصرة بأشكال الموت كلها؟ ولماذا غزة؟ هل لأنها تشكل اليوم الضمير المقتول، أم لأنها تدعونا إلى المقاومة بأدوات نملكها ولا نملكها، لكن علينا أن نقاوم بها أو من دونها؟
تشكل غزة اليوم مقياساً لمآل القيم الأخلاقية في العالم، فهنا على الشاطئ الجنوبي للمتوسط تنهار جميع القيم، ويتحول الإنسان إلى ظل لإنسانيته.
هنا في غزة تتم جريمة إلغاء التمييز، أو محاولة إلغاء التمييز بين العدالة والظلم، بين الموت والحياة، بين الضمير وغيابه.
كيف يمكن أن يبتلع العالم هذه الكمية من الأكاذيب التي اخترعها النازيون وقادت إلى الجريمة، وهو يرى الأكاذيب نفسها تتكرر، والجريمة تفترس الأرض؟ إنهم يكذبون بلا توقف، بهدف ماذا؟ يكذبون وهم يعرفون أنهم قتلة، ويدّعون أنهم ملائكة. يكذبون وهم يعرفون أنهم يدمرون الأخلاق ويتغطون بالقيم الإنسانية.
إسرائيل هي آلة حرب وإبادة. آلة حرب لأنها جيش يمتلك دولة، جيش مهمته تصحير الأرض الفلسطينية عبر إفراغها من الناس، وإعدادها للاستيطان الاستعماري.
تأسست إسرائيل كجيوش مسلحة في مرحلة الييشوف، وبعد تأسيسها تسلّم السلطة فيها زعيم القوة العسكرية الأكبر، وفرض توحيد الميليشيات بالقوة. وكان تاريخ إسرائيل هو تاريخ حروبها ضد الفلسطينيين والعرب، من حرب السويس إلى حروب غزة.
وهي آلة إبادة، لأن حروب إسرائيل على الفلسطينيين لا تهدف إلى إخضاعهم لاستعمارهم فحسب، بل إلى إبادتهم أيضاً. والإبادة تتخذ مراحل متعددة، من الحصار إلى الاستعمار الاستيطاني وصولاً إلى الإبادة، أي إلى النموذج الوحشي الذي يرسمونه اليوم بدماء أهل غزة وآلامهم.
إبادة الفلسطينيين و/أو طردهم من بلدهم هي شرط وجود بالنسبة إلى الحركة الصهيونية في مرحلة هيمنة التيارات القومية والدينية. فالفلسطينيون يواجهون شرط الوجود الصهيوني بوجودهم المهدد وبدمائهم.
الرؤية الإسرائيلية إلى مستقبل فلسطين نراها في المجزرة المستمرة في غزة، وهي مجزرة لن تتوقف إلّا حين يوقفها الفدائيون بأيديهم. لا أدري لماذا يصدق الغرب الكذبة الإسرائيلية التي تفوقت على غوبلز النازي الذي قال: «اِكذب حتى يصدقوك»، أمّا الصهيوني فيقول: «اُقتل حتى يصدقوا أنك الضحية!». هذه الكذبة الكبيرة التي خلقتها حرب غزة ستترك بصماتها على تاريخ الثقافة والفكر والحياة في هذا العالم الذي نعيش فيه. غزة اليوم هي سُرّة العالم مثلما هي القدس سُرّة العالم. غزة اليوم هي المكان الذي نكتشف فيه أن أعماق الأرض تضجّ بالحياة مثلما يضجّ سطحها بالحياة، وأن قتل الأعماق مستحيل، وقتل الحياة مستحيل.
لغزة اليوم، يقف أطفال غزة الذين يختنقون، يقف أهل غزة الذين لا يجدون مأوى أو ملجأ، يقفون ونحن معهم، وحدهم، وحدنا، متمسكين بالقيم الإنسانية.
الحرب لم تنتهِ، لأن إسرائيل الليكودية عاجزة عن قراءة الواقع مثلما تمخضت عنه أيام الحرب الطويلة.
يحاولون وسيحاولون كثيراً تجنّب تجرّع كأس هزيمة غزوهم الذي صار عاراً على جبين الإنسانية كلها. لذا سيحاولون من جديد، لكنهم في النهاية سيصطدمون بجدار الفشل. أمّا حكام العالم العربي الذين أعلنوا إفلاسهم وعجزهم، فخرجوا من التاريخ وتحولوا إلى أصفار، وسيدفعون الثمن.
وفي النهاية سننحني على أشلاء غزة نلملم دماءها ودمارها، ونسجل قصة بطولاتها في كتاب المقاومة المستمرة.