أعمال فاضل الجعايبي هي دائما حدث في تاريخ المسرح التونسي نظرا لثراء تجربة هذا الرجل وتمكنه من تقنيات المسرح وعمق خطابه في كثير من أعماله.
شاهدت عمله الأخير " آخر البحر " في ثاني عرض لها في قاعة الفن الرابع . العمل دراما هي اقرب إلى تراجيديا عائلية تنتهي بانتحار بطليها في مشاهد مؤلمة تتراوح بين الموت بالرصاص والموت غرقا وفي مأساة إنسانية تقتل فيها الأم ابنيها وتكشف عن الجانب المتوحش في كل إنسان .
وتقوم المسرحية على حوالي10 مشاهد تمثل مواجهات بين شخوص مختلفة : بين الشخصية الرئيسية في المسرحية وأولها المواجهة بين امرأة يمنية مهاجرة إلى تونس ارتكبت جريمة قتل شنيعة كما سنرى وطليقها ، و بين حاكم التحقيق وهي امرأة أيضا والزوج الذي استدعي كشاهد على الجريمة ،وبين القاضية و المرأة القاتلة : وبين القاتلة والطبيب النفسي وبين القاضية والطبيب النفسي: وبين المحامية وحاكم التحقيق ، أساسا.
تدور أحداث المسرحية حول امرأة يمنية هربت من اليمن مع تاجر تونسي متخصص في تهريب الآثار الثمينة والمتاجرة بها . ذهب الى هناك للعثور على نسخة فريدة من القرآن تعود الى القرن السابع و تمكن من شرائها كما فرت معه ابنة مالك المخطوط وهي المرأة اليمنية وفي أثناء عملية الهروب يضطر التاجر التونسي إلى قتل أخيها الذي وصله خبر فرار أخته مع التونسي فأراد ان يمنعها من ذلك درءا للفضيحة غير أن مصيره كان القتل على يد التاجر التونسي.
بعد رجوع التاجر إلى تونس تزوج باليمنية غير أن العلاقة بعد ثماني سنوات من الزواج ( تقع أحداث المسرحية بين2015 و2024 بحسب تأريخها هي نفسها للأحداث ) ساءت فطلقها ليربط علاقة بامرأة أخرى هي ابنة صاحب له وهو تجار أيضا مضارب وكان شراؤه لنسخة القران الفريدة لحسابه .
وتبدا الدراما بمواجهة بين اليمنية وطليقها يطلب منها الرحيل من تونس وترك ولديها منه .
غير اننا نكتشف في المشهد الثاني ان اليمنية قامت بواسطة قنبلة باغتيال خطيبة طليقها وأبيها كما قامت بقتل ابنيها من طليقها وتقود عملية القتل المتعددة إلى جلسات تحقيق هي عماد المسرحية تقريبا وهو ما يشير إليه الركح الفارغ إلا من بضعة كراس وطاولة يستعملان في جلسات تحقيق قضائي متعددة . وهنا تحاول المسرحية تقديم صورة عن القضاء التونسي.
القضاء التونسي في قبضة الاتهام
قال فاضل الجعايبي في تصريح صحفي حول مسرحيته الجديدة انه أراد الاستعانة بقاضية في تصويره لجلسات التحقيق القضائي غير انه لم يجد غير محامية. والمفهوم من كلامه انه أراد لهذه الجلسات كما تعرضها المسرحية أن تكون قريبة من الواقع ومقنعة فنيا.
غير ان الأمر كان بخلاف ذلك تماما .كانت جلسة التحقيق الأولى مع الشاهد و سيكون متهما لاحقا بقتل اخي زوجته اليمنية .و البدء بالتحقيق مع الشاهد ( كانا وجها لوجه ودون حضور اي شخص اخر وهو أمر لا يمكن حدوثه ) ممكن بموجب الإجراءات الجزائية غيران المعمول به في الغالب هو الاستماع الى المتهم اذ ان التحقيق يتسلط عليه اولا لا على الشاهد ومن الواضح ان هذا الاختيار مدبر إذ كان المقصود منه توجيه الاتهام منذ البداية للقاضية باعتبارها غير مستقلة من خلال إشارات صريحة ومبطنة بعدم استقلالها في مشاهد بعيدة عن الإقناع واحيانا يطغى عليها الحشو والشعارات تلقى جزافا. فكل من يعرف من قريب او من بعيد جلسات التحقيق أمام القاضي يعرف أن هذه الجلسات تقوم على عناصر هي القاضي ( القاضي هنا في المسرحية امرأة وكانت تدون هي نفسها على حاسوب أقوال الشاهد وهو أمر مختلق ولا معنى له إذ أن القاضي لا يدون بنفسه أقوال من يحقق معهم ) كاتب الجلسة وهو الذي يدون أقوال من يقع التحقيق معهم والمحامي وممثل النيابة العمومية إن طلب الحضور.
هذا من حيث الشكل أما من حيث المضمون فان النيابة العمومية تتعهد في القضايا الإجرامية بالقضية من تلقاء نفسها و تأذن بفتح بحث تحقيقي مع التكييف الأولي للجريمة تحددها طبق المجلة الجزائية أو غيرها من النصوص الخاصة وبما أن المتهم يتمتع بقرينة البراءة فانه على التحقيق القضائي أن يثبت وجود الجريمة التي من الواجب أن تكون يقينية لتصمد أمام المحكمة أو عدم وجودها. ولذلك فان حاكم التحقيق يعتمد في تحقيقه على استخراج أكثر ما يمكن من الأدلة بواسطة الأسئلة الموجهة لمعرفة الحقيقة. ويقوم بمواجهة المتهم بما سجل عليه بسماعه لدى الباحث الابتدائي وما سجل على الشهود وبنتيجة كل التساخير والاختبارات الفنية على البصمات وعلى العينات الجينية و السوائل المأخوذة من جسم المتهم والضحية والفحوصات الطبية التي ترد نتائجها مع الأبحاث الأولية بمقتضى الإنابات العدلية والتي عادة ما تكشف جانبا هاما من الحقيقة و أدلة الإدانة ثم يأذن قاضي التحقيق باستكمال ما بقي ناقصا من التحريات بعد ان يقوم باستنطاق المتهم بناء على المواجهة بحثا على الإدانة أو البراءة.
غيران المسرحية تبدو بعيدة كل البعد عن هذا الواقع رغم انها تريد ان تقدم صورة "صادقة" عن القضاء التونسي . فهي تعرض علينا جلسات تحقيق غير مقنعة في اسلوب غريب هو اقرب للدردشة بين أصدقاء وفي مشاهد لا ندري رمزيتها فمن اغرب ما تعرضه علينا المسرحية هو نزع القاضية لحذائها ذي الكعب العالي في مفتتح كل جلسة تحقيق فتتولى أعمال التحقيق حافية القدمين ( لم نتوصل إلى إدراك معنى هذا ) كما نرى الشاهد يسمي القاضية باسمها ( زينب ) أو يهديها باقة ورد بلاستكي فترفضها وتوحي إليه بان من يريد أن يهدي لامرأة شيئا ثمينا فلا يهديها وردا بل يهديها سيارة فاخرة من (هنا لغادي) أو عقدا من الماس (شركة ديامنت) في إيحاء وحث و اضح على الارتشاء .....
ولا شك أن مشاهد الاستنطاق لم يكن الغاية تقديم مشهد حي ومقنع عن التحقيق في تونس باعتباره من إحدى معضلات استقلال القضاء بل الإيحاء بعدم استقلال القاضية بشكل مرتجل ينقصه الإتقان بل هو مفبرك أحيانا و بعيد جدا عن أي شكل من أشكال الاحتمال بالمعنى الفني أو الإقناع رغم أن المسرحية تحاول في جلسات التحقيق ومن خلال استنطاق القاضية أن تكون قريبة من أجواء المحاكم وذلك بالتكثيف من استعمال المعجم القانوني او من خلال عرض كثير من الفصول من المجلة الجزائية ( تسميها القاضية مجلة جنائية ) دون أن تتكبد عبء عرض ملابسات عدم استقلالية القضاء في مواقف محبوكة تكشف عن خفايا المتورطين فيه بشكل يضفي نوعا من المصداقية على التهمة بل تكتفي المسرحية باتهامات معروفة موجهة للقضاء في ما يشبه القوالب الجاهزة ( الولاء للسلطة التنفيذية دون أي دليل أو لرجال الأعمال ) لا شيء هنا غير علب فارغة من الأقوال المتداولة والنكت المموجة مثل ما تقوله المسرحية عن إهداء المرأة وردة ورفضها لذلك فكثيرا ما توضع هذه الأقوال على أفواه النساء للدلالة على سخافة عقولهم وتعلقهن بالمظاهر.
قضية المرأة
يبدو ان الموضوع الرئيسي للمسرحية مع موضوع القضاء هو موضوع المراة التونسية في خيبة أحلامها مع الثورة.
أولا لم نتوفق إلى فهم معنى اختيار امرأة يمنية ( لماذا اليمن بالذات ؟) مهاجرة للحديث عن واقع المرأة التونسية خصوصا لا المرأة العربية عموما كما قد يتبادر إلى الأذهان إلا إذا كان المقصود هو إبراز الصورة التي يحملها العرب في بلاد متخلفة جدا مثل اليمن عن تونس وهي صورة مضيئة غير أن هؤلاء العرب و من النساء خاصة ومنهم المرأة اليمنية يكتشفون حين حلولهم إلى تونس والعيش بها بأنها صورة كاذبة ومخادعة آو كان المقصود تبرير العملية الإرهابية التي قامت بها المرأة وهي قادمة من بلاد تعيش أجواء الحرب والإرهاب ( تونس سليمة من قدرة أهلها على صنع القنابل وهذا النوع من العمليات الإرهابية مستورد من الخارج ) أو كان المقصود النسخة الفريدة من القرآن التي تتحول إلى لعنة مع العلم أن فكرة المخطوط الذي يتحول إلى لعنة تحولت هي نفسها إلى صيغة فنية مجترّة منذ استعمالها بإتقان شديد من قبل أمبرتو أيكو في روايته الشهيرة "اسم الوردة ".
و في خضم الحديث عن وضعية المرأة هنا تغرق المسرحية في خطب طويلة وفي كثير من الأحيان مصطنعة حول وضعية المرأة في تونس في فشلها الزوجي وخيانة زوجها لها وفي طلاقها غيابيا ( لا وجود لطلاق غيابي في تونس كما تقول المسرحية ) وفي التحيّل عليها وفي تحول أبنائها إلى لعنة على وجودها وكيانها وفي هيمنة المجتمع الذكوري المريض بفكرة الجنس والسيطرة و في الحكم على المرأة المناضلة بأنها مومس وساقطة وهاملة الخ . و لا شك أننا هنا بإزاء إدانة صريحة للثورة ( تاريخ الأحداث يشير إلى ذلك بصراحة كما تشير المسرحية إلى وقائع بعينها مثل اغتيال شكري بلعيد ) فقد كانت الثورة وبالا على المرأة في نظر الجعايبي وهو أمر مخالف تماما للواقع .فلا شك أن الحقوق التي نالتها المرأة بعد 2011 لم تكن كافية لتحقيق المساواة الكاملة مع الرجل ولحمايتها من العنف سواء داخل محيط الأسرة أو خارجها. فقد ظلت في وضعيتها بخلاف اغلب البلدان العربية تراوح بين التحرر من جهة وهو الأمر الذي عرفت به في العالم العربي والتمييز والعنف من جهة أخرى ومن ذلك موجات اغتيال النساء من قبل الأزواج خاصة.غير أنها لم تحصل طوال تاريخ النضال النسوي على ما حصلت عليه بعد الثورة سواء على مستوى التشريعات او على مستوى الحضور السياسي والنشاط الجمعياتي مما يحتاج الى قول خاص ليس هذا مجاله.
غير ان كل هذا لا يمنعنا من الإشادة بالبراعة الشديدة في المزج بين المشهد المسرحي والعرض السينمائي اذ وقع استعمال الشاشة الكبيرة في قاعة الفن الرابع ( وهي في الأصل قاعة سينما ) في خلفية الركح الخالي من أي ديكور تقريبا لعرض مشاهد متحركة عن البحر وتواكب مشاهد البحر في حالاته المختلفة بين المتموج والعاصف أحداث المسرحية نفسها من السكون إلى الهيجان بالإضافة إلى براعة الأداء الركحي للممثلين وأكثرهم من الشبان و كانت مشاهد المسرحية ترافقها موسيقى للبحر الذي حمل عنوان المسرحية وهو طريق عبور لليمنية إلى ارض تونس بحثا عن ملاذ وولادة جديدة ولكن أيضا قبر لولديها اللذين أغرقتهما بيديها ثم قبر لها حين اختارت الانتحار غرقا... وهكذا كان البحر في أوله عنوانا للأمل والولادة وفي أخره تنتهى الأحلام ويتحول إلى مقبرة للبشر والأمنيات .
مسرحية "آخرالبحر" هي صورة للعمل الفني يتراوح بين الجودة على المستوى الفني وهيمنة الموقف الإيديولوجي.