زيارة الرئيس إلى ديوان التجارة (خلافا لزياراته الأخرى) تطرح أكثر من سؤال محيّر، وتعلن أننا دخلنا منعرجا جديدا في السباق نحو (حكم الفرد ونهاية عهد المؤسسات). فالمنطق يفترض أن يحال ملف المديرة أولا على المصالح الإدارية المختصة للبت في مدى مسؤوليتها عما وقع، واتخاذ القرار المناسب الذي يصل حد العزل من الوظيفة العمومية في صورة ثبوت الخطأ الجسيم، قبل أن يحال على أنظار القضاء إذا ما ارتأت سلطة الإشراف ذلك. وخلال كل هذه المراحل يظل (المتهم بريئا إلى أن تثبت إدانته) ويمكن له حتى وإن كان جرمه ثابتا التمتع بما يكفله له القانون من آليات الدفاع في مختلف مراحل التقاضي. والأهم من كل هذا يظل في منأى عن التشهير، وتظل كرامته محفوظة، لأن العقاب لا يشمل بأي حال من الأحوال التنكيل بأي متهم وإهانته..
أما ما شاهدناه ففيه حرق لكل هذه المراحل، لأن الرئيس يقول بكل ثقة في النفس (إن الأدلة ثابتة)! ولا ندري كيف يمكن لباحث البداية أن يباشر التحقيق لو أحيل إليه الملف وأعلى هرم السلطة واثق من مسؤولية المتهم الجنائية.
ثم إن تغطية وجه (المديرة المتهمة) في فيديو الرئاسة ليس كافيا لحفظ كرامتها، فالتصوير بلا شك وقع وسط جمهرة من الأشخاص الذين كانوا مع الرئيس والمتهمة لم يسمع لها صوت البتة.
أي شخص سيفرح لمثل هذا التحقيق الذي يواجه فيه رئيس الدولة بكل الحصانة التي يتمتع بها شخصا ضعيفا (حتى وإن كان مجرما بحق) ليكن على يقين من أن دوره آت لا محالة وأن حقه في ألا يخضع إلى أي استجواب دون حضور محام قد ذهب أدراج الرياح، وانك إن شمتت بأخيك فإن الله قد يرحمه ويبتليك! فقد ذهب وولى إلى غير رجعة عهد كان هذا لا يحدث فيه إلا للآخرين!.
هذه الحملة الانتخابية المبكرة تشبه ما يفعله فيل ترك بمفرده في معمل للخزف، فقد نكون بصدد الانتقام من السارق الذي قبضنا عليه متلبسا بهدم بيتنا على رأسه.
أما أنا فأرى أن الدرس الوحيد الذي يمكن استخلاصه من مثل هذه القضايا هو تهافت مقولة (الشعب الصالح والنخبة الفاسدة)، فالفساد ينخر المجتمع بكل طبقاته والمقاربة الأمنية وحدها لا يمكنها أن تكون الحل، لأنه لا توجد سجون كافية لحبس كل الفاسدين.
وفي قضية ديوان التجارة فإن المتهم الرئيس فيها هو البيروقراطية المتخلفة التي تجعل مؤسسة عمومية بحجم هذا الديوان تنقل أموالها بصكّ من بنك إلى بنك ليظل محبوسا في مكتب مديرة (قد تكون توارت عن الأنظار فعلا لتعطيل الصفقة). وقبل تحميلها هي وزر هذه النازلة لنضحك قليلا على واقع مؤسساتنا المزري ودولة (التعريف بالإمضاء) التي نتمسك بتلابيبها بلا هوادة.