مع مطلع القرن العشرين كان العالَم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه، يعيش أحوالًا متدهورة بعد أن تمزَّق إلى أشلاء، ووقعت أغلب بلدانه فريسة للاستعمار، وبحلول عام 1905م، الذي شهد رحيل الإمام محمد عبده، وُلد في ذات العام كاتب عربي في الجزائر القابعة تحت الاستعمار الفرنسي آنذاك لأكثر من نصف قرن، نهض هذا المثقف لينبري للإجابة عن هذا السؤال المصيري: لماذا تخلَّف المسلمون ونهض غيرُهم؟
سجَّل مالك بن نبي خُلاصة ما اختلج في نفسه التي أُريد لها التحطيم، عبر الإكراه الجسدي والسُّم المعنوي في شهادة حملت عنوان «مذكرات شاهد للقرن»، ومذكرات أخرى بعنوان «العفن».. يقول مالك بن نبي: «مَن وُلدَ بالجزائر عام 1905م، أتى في فترةٍ يتصل فيها وعيه بالماضي، المتمثل في أواخر شهوده، وبالمستقبل المتمثل في أوائل صائغيه... فكان لي حين وُلدت تلك السنة، الحظ الممتاز الذي يتيح لي أن أقوم بدور الشاهد على تلك الحقبة من الزمان... فأنا أنتمي إذًا إلى الجيل السيئ الذي يختم طَوْر التحلُّل الذي ألمَّ بالحضارة الإسلامية ويأذن بعصر جديد يختلط فيه نوعان من العفن: الاستعمار والقابلية للاستعمار».
طفولة مالك بن نبي
منذ نعومة أظفاره تفتَّحت عين ابن نبي على الفظائع التي ارتكبتها فرنسا عندما اجتاحت الجزائر عام 1830م، عبر القصص المأساوية التي سمعها من جدّته التي شهدت تلك الأيام الصعبة، وفي أثناء طفولته في مدينة قسنطينة، وبالتحديد في نهاية دراسته الثانوية عام 1925م، كان يتطلع إلى الصحف الفرنسية المعروضة حتى رأى عنوان «جرح الضابط البريطاني السردار.. ونفي سعد زغلول».. استأثرت به تفاصيل النبأ، وبدأت بذور اهتماماته السياسية في مواجهة الاستعمار تنمو في جوانحه من تلك اللحظة. وكانت مدينة قسنطينة تغلي بالحس الوطني والفكر الإصلاحي، فكانت تشهد معركة حامية بين الوطنيين، بقيادة الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وبين المستعمرين بقيادة الحاكم الفرنسي للمدينة، في خضم هذا الصراع وُلدت حركة إصلاحية قادها الإمام عبد الحميد بن باديس، أحد أبرز المصلحين بتاريخ الجزائر.
يقول ابن نبي عن حبه مادة الرياضيات:
«الرياضيات كانت تمارس في نفسي أثرًا هو نوع من الوَلَع يأخذني كُليًّا، إنني أتذوق المعادلات الرياضية كأنما هي قصيدة يأخذني سحرها، ولها وقعها في نفسي بأكثر مما يؤثر جرس بيت الشعر، بما لا يقاس»، أما أنا فلا أحب الرياضيات وهي أقل مادة كنت أحصل فيها على درجة مع مادة الفيزياء.
عبور إلى فرنسا
عام 1925م تخرّج مالك بن نبي، وقرر الخروج من قسنطينة لا يلوي على شيء ليجتاز البحر إلى فرنسا، وفي قلبه سخط على الاحتلال الفرنسي، لكن هذا السخط ما لبث أن تحول إلى صدمة حضارية بمجرد وصوله إلى الأراضي الفرنسية، حيث انكبَّ ابن نبي على مُطالعة البرامج الجامعية التي اكتشف من خلالها مدى تخلُّف المسلمين عن الحضارة، وهي الحقيقة التي جعلته يشعر بإهانة كبيرة، يقول مالك بن نبي: «لم أكن بكل حال لأعتقد أنني مجرد عابر يعبر البحر إلى فرنسا، بل كان في نفسي شعور بأنها رحلة عظيمة كتلك التي قام بها كولومبس وهو يكتشف العالم الجديد.
عندما بدأت الجزائر تغيب عن الأفق، وجدت نفسي أقول: يا أرضًا عقوقًا تطعمين الأجنبي، وتتركين أبناءك للجوع، إنني لن أعود إليك إن لم تصبحي حرة».
لقاء مع ماسينيون
اشتُهر المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون بدراسة التصوف ودراسته الضخمة عن الحلاج، وعلى الوجه الآخر من صورة ماسينيون، العالم والباحث، يقدم ابن نبي تصورًا مغايرًا له في مذكراته، إذ يصوره في المذكرات متعاونًا مع سلطات الانتداب الفرنسي، وقد حاول ماسينيون استمالة ابن نبي لينضم إلى النخبة الجزائرية المتفرنسة، لكن مع رفض ابن نبي، بدأ ماسينيون معاقبته والتضييق عليه، ولأن ماسينيون كان يدرك خطورة الأفكار، فقد قال بعد نشر ابن نبي كتابه «شروط النهضة» إن هذا الكتاب خطر حقيقي على الاستعمار، يقول مالك: «عندما أخبرني صديقي برغبة ماسينيون في لقائي كنت أجهل أن جميع الخيوط التي تحرك عالمنا الصغير كانت بين يديه، لقد كان خفيًّا متواريًا كالعنكبوت، لم أكن أدري ماذا يعني هذا الاسم طوال حياتي، وكيف سيؤثر في مصيري ومصير عائلتي؟».
يحكي مالك بن نبي في مذكراته «العفن» أنه حضر محاضرة لماسينيون وذكر المحاضر اسم الشيخ محمد رشيد رضا، وتوقف عن الحديث دقيقة وكأنه مستغرق في تفكير باطني، وختم قولته بهذه العبارة:
- المهم أن هذا الرجل مات.
لويس ماسينيون حاضر في مذكرات برنارد لويس، وبن نبي، وعبد الرحمن بدوي، وجورج مقدسي، لو جُمعت تلك الشهادات من السير الذاتية في بحث لخرجت مادة طريفة عن هذا المستشرق الإشكالية والمختلَف عليه بين المدح والهجاء.
باءت رحلة ابن نبي بالفشل، ليعود أدراجه إلى قسنطينة ليعمل في محكمة آفلو، وبحلول عام 1928م استقال من وظيفته بعد شجار دار بينه وبين أحد الكتّاب الفرنسيين بالمحكمة. لكنه بعد عامين عاد إلى فرنسا مملوءًا باليأس والإحباط في رحلة علمية غيَّرت مجرى حياته.
فمِن هناك عزم أن يسجل نفسه بمعهد الدراسات الشرقية، لكن طلبه رُفض ليقرر بعدها الالتحاق بمعهد الهندسة الكهربائية، الذي فتح أمامه الباب على مصراعيه للتعرف على علوم الحضارة الغربية عن كثب.
يروي ابن نبي قصة فشله في الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية تحسُّرًا، وكيف صدمه مدير المعهد بالحقيقة المُرة وهي أنه «مسلم ومن الجزائر! ».
يقول ابن نبي: «نزلت كلمات المدير على طموحي نزول سكين المقصلة على عنق المعدم، فكان هذا الفصل الأول من مأساة خيبة الأمل وعدم جدوى العمل وحدي، وفي ذلك اليوم لم يتحطم فقط أملي، بل شعرت أن حلم والدتي ووالدي تحطم أيضًا على صخرة الإرادة المقرَّرة في خفاء لدى الدوائر التي تسهر على المصالح الاستعمارية العلية».
أسباب الهزيمة النفسية
أثرت هذه الحادثة في نفسه وحوّلت دفته من الاكتفاء بدراسة الهندسة إلى التعمُّق في بحث أسباب الهزيمة النفسية للأمة.
يقول ابن نبي في مذكراته إن ذهابه إلى باريس مكَّنه من اكتشاف عقله وحجم الأزمة التي غرق فيها وطنه، وهو الأمر الذي دفعه إلى البحث سريعًا عن جذوره، ليجد ضالته في جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا، التي ألقى فيها محاضرة حملت عنوان «لماذا نحن عرب؟».
لاقت المحاضرة إعجاب كثيرين ليذيع صيته بعدها ويصبح «حامل عقيدة وحدة شمال إفريقيا».
لكن المحاضرة نبهت الإدارة الفرنسية إلى نشاطه السياسي والفكري، وقدمت الشرطة للتحقيق معه بعدها.. يقول ابن نبي عن تلك المرحلة: «لم تعد تجذبني أحلام الآفاق البعيدة، ولم يستمِلني مركز اجتماعي مرموق، لم يعد لي من حلم غير تحصيل العلم، وأصبحت أشعر أنني حُمّلت جميع آثام مجتمع يبحث عن الخلاص من بؤسه، كأنني بالنسبة لذلك المجتمع كبش فداء شاعر بثقل ما حمله من مسؤوليات ومحن وآمال، فانكببت على تحصيل العلم بلهفة مَن يرى كل ما في وطنه وفي المجتمع الإسلامي من جهل ومن أصناف الانحطاط، ولا يمكن لأحد أن يكون كبش فداء لقوم، دون أن يتصور بطريقة ما أنه المنقذ المبعوث إليهم، هكذا كانت حالتي يوم دخلت مدرسة اللا سلكي».
سنوات باريس
من المحطات المهمة في حياة مالك بن نبي في باريس، تعرفه على الزعيم مصالي الحاج، ومحاولته إحياء حزب نجم شمال إفريقيا، وكان ذلك صدى ما جاء من الدعوات التحررية من المشرق العربي، حيث كان الأمير شكيب أرسلان لاجئًا في جنيف، يواصل الهجوم على الاستعمار عبر صفحات جريدة الأمة العربية، التي كانت أعدادها تصل إلى الحي اللاتيني في باريس، وفي هذه الفترة تعرف على باريس وبدأ يعقد المقارنات بين واقع الجزائر وحضارة فرنسا.
«مع قدومي إلى باريس وجدتني بكل فرح في الحي اللاتيني المليء بالنشاط والحيوية، كانت باريس دائمًا تسحرني في تلك المعالم الأثرية، لقد أضاءت روحي الحجارة السوداء لمبنى الكوليج دو فرانس، وعرفت لماذا تسمى باريس مدينة النور، لقد وقفت أمام هذه المباني الجامعية أتأمل عميقًا ما يفصل بينها وبين العالمين الإسلامي والعربي، فهذا البون الشاسع بين الجزائر وباريس قد أذلني كثيرًا، وأكثر ما أثار حفيظتي أكثر فأكثر أنني كنت وحيدًا، ولم أرَ طالبًا عربيًّا مسلمًا يخاطب هذا العالم من حوله بروح من التأمل».
الحرب على الاستعمار
حمل مالك بن نبي قلمه معلنًا الحرب على الاستعمار وكل من تعاون معه من النخبة الجزائرية، التي يقول إنها يئست من مستقبل العروبة والإسلام في الجزائر.
بعد أن فشلت الثورات التي قام بها الجزائريون منذ قرن لإخراج الجيوش الفرنسية من الجزائر، وفي باريس، كانت الإدارة الاستعمارية تسعى لتقسيم طلبة الشمال الإفريقي، وتعزل كل جماعة من دولة في مكان مختلف حتى لا يزيد رابط الوحدة بينهم وعندما أنهى مالك بن نبي دراسته في فرنسا وبسبب ميوله الفكرية في ذلك الحين طمح إلى السفر إلى السعودية للعمل بها، لكنه مُنع من دخول مصر لأسباب بيروقراطية، فحاول إقناع ممثلي الملك فاروق بالسماح به بالسفر إلى السعودية عبر مصر، فرفض طلبه، مما اضطره إلى العودة بزوجته مُجددًا إلى فرنسا.
«ابن نبي وسنوات الحرب العالمية الثانية».. في عام 1940 تسقط باريس في يد القوات الألمانية النازية، ويستشعر مالك بن نبي الخطر، فلم يحصل على عمل بسهولة، وتجمعت عليه مصاعب الحياة مع قسوة الحصول على قوت يومه، ومع جلاء القوات الألمانية، عادت القوات الفرنسية، وجرى اعتقاله وزوجته والتحقيق معهما بشبهة التعاون مع القوات النازية.
وصف ابن نبي في مذكراته شعوره بالخذلان المرير عند تعرضه لتجربة السجن، مستحضرًا شعوره في ليلة رمضانية عندما نظر إلى الشباك وقال: «وا أسفاه! لم تتحرك نجمة من نجوم السماء وتهرع لنجدتي».
ومع خروج مالك بن نبي من السجن عام 1946م شعر أنه حطام ألقى به موجُ البحر على الشاطئ، على حد تعبيره، «لقد أعطاني درس الحرب عبرة انهيار بلد وهو يتمتع بالقوة، كفرنسا، لقد كان هذا الانهيار موضوع تأمل وتقبّل، لكن في غمرة هذا المشهد، آثرتُ الرحمة للفرنسيين، فأنا المُستعمَر، الطالب الذي حُرم من سائر فرص العيش، أنا المهان الذي سُدّت أمامه كل الأبواب، أنا الذي عوملت بغير رحمة، كنت أخاف أن يعامل الألمان الفرنسيين كما عاملوني».
ويضيف عن زوجته: «لم تكن امرأة تبدع في بيتها مثلما كانت خديجة، لقد كان ترتيب الأشياء ميزة لها، وفي أحد تنقلاتنا، فتحت أمام موظف الجمارك حقيبتها، فدهش لحسن ترتيبها وجماله، فقال لها: أغلقي يا سيدتي حقيبتك، إنني لا أريد أن أضع يدي في هذا البناء الدقيق».
ابن نبي في المشرق العربي
بسبب جو الملاحقة الأمنية من المخابرات الفرنسية، الذي تعرض له مالك بن نبي في الجزائر، قرر في أوائل عام 1956م التوجه إلى القاهرة للمشاركة في الثورة الجزائرية من خلال الكتابة، وأهدى ابن نبي كتابه «فكرة الإفريقية الآسيوية» إلى الرئيس جمال عبد الناصر، لقد جاء ابن نبي إلى القاهرة في النصف الثاني من الخمسينيات من القرن الماضي، وأسهم في نشر أفكاره عن خطر الاستعمار، وفي قاهرة الخمسينيات عمّق معرفته باللغة العربية ونشر كتبه.
وتعرف إلى عديد من الشخصيات، مثل الأمير عبد الكريم الخطابي، الذي استمع مالك بن نبي وهو طالب إلى أخبار انتصاراته في معركة «أنوال» ضد الفرنسيين، وانعقدت الصلة بينه وبين الأستاذ محمود محمد شاكر، الذي كتب مقدمة لكتاب ابن نبي «الظاهرة القرآنية».
ابن نبي في الأرشيف الأمني الفرنسي
مع صدور كتاب مالك بن نبي في الأرشيف الفرنسي، من إعداد الباحثين رياض شراونة وعلاوة عمارة، اللذين ترجما ملفات ابن نبي في الأرشيف الأمني الفرنسي، تقدم لنا تلك الوثائق صورة مهمة عن شخصية مالك بن نبي، إذ جرت مراقبته من الشرطة الفرنسية ومتابعة ما يكتب، وقد عاش مالك بن نبي حياته في قلق وشعور بالمطاردة من الفرنسيين.
ولعل تلك الوثائق الأمنية تجعل من هواجسه التي كتب عنها في يومياته مخاوف حقيقية، إذ تشير إلى مراقبة الأجهزة الأمنية لتحركات ابن نبي ومراجعة ما يفعله وينشره، وتصفه بعض الوثائق الفرنسية بـ«المتعجرف» (فقدماه لا تلامسان الأرض).
في حين توصي تقارير أخرى بضرورة الاستفادة منه على صعيد عمال شمال إفريقيا في فرنسا، وهذه المتابعات الأمنية المستمرة ستجعل ابن نبي يصف نفسه في المذكرات بـ«المنبوذ».
ابن نبي في الجزائر المستقلة
وفي عام 1963م، في اليوم الذي انتُخب فيه أحمد بن بلة رئيسًا لجمهور الجزائر المستقلة، كان ابن نبي ينتظر إشارة إلى عودته إلى وطنه الذي غاب عنه، ومع العودة جمعه لقاء مع الرئيس الجديد وتحدث ابن نبي عن مشكلة اللغة العربية في الجزائر وعن المعطيات التي خلفها الاستعمار الفرنسي وراءه، واستمع إليه الرئيس بإنصات، وهكذا سار موكب ابن نبي في بدايات مسار الاستقلال، وواصل الكفاح في جبهة الفكر وفي ميدان الكلمة، فقد عُيِّن مديرًا للتعليم العالي، بطموحات عالية في التغيير، لكن أمله ما لبث أن تبدد عند أول منعطف حينما واجه إدارة الحكم والقادة الجدد، لذلك استقال من منصبه عام 1967.
واجه ابن نبي، خلال حياته، التهميشَ بعد استقلال الجزائر، خصوصًا بعد الانقلاب على بن بلة، ليقرر بعدها التفرغ للكتابة والتأليف عن مشكلات الحضارة وهموم الأمتين العربية والإسلامية، واحتل الهم الجزائري الحيز الأكبر من كتاباته، وفي معظم مؤلفاته التي جاوزت عشرات الكتب، كان ابن نبي يصرخ بأعلى صوته بأن أزمة العالم الإسلامي إنما هي أزمة حضارة، وأنه لا حل لها إلا ضمن مشروع إنشاء حضارة إسلامية جديدة.
عاش مالك بن نبي في أيامه الأخيرة في معاناة وضنك بعد أن نفدت أمواله ليغادر الحياة في صمت في الحادي والثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973م.