انضمت الفنانة الفلسطينية سامية الحلبي إلى الروائية عدنية شبلي، إذ جرى تدفيعهما ثمن مواقفهما من قضية فلسطين، في حمى الهستيريا الغربية التي تحولت إلى فلسطينو- فوبيا. الحلبي ألغي معرضها الاستعادي في جامعة انديانا في الولايات المتحدة، وشبلي حجبت عن روايتها «تفصيل ثانوي»، جائزة معرض فرانكفورت في ألمانيا للآداب غير الأوروبية. حلبي وشبلي من جيلين مختلفين، لكن ما يجمعهما ليس ذاكرة نكبة 1948 فقط، بل النكبة المستمرة التي وصلت اليوم إلى ذروتها في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في غزة.
أعمال الحلبي وروايات شبلي تتمتعان بأهمية استثنائية، والتوقف عندهما ضروري لأنهما يضيئان جوانب جديدة في الحياة الفلسطينية. شبلي توثق الجريمة وتحللها، والحلبي ترسمها بنبض من احترق بنارها.
المسألة التي أريد أن أعالجها اليوم تتعلق بالاضطهاد الذي تتعرض له الثقافة الفلسطينية والمؤيدة لفلسطين في العالم بهدف خلق معادل للإبادة في غزة. فالثقافة الفلسطينية تتعرض اليوم لخطر الإبادة، وقدرتها على المقاومة لا تقل أهمية عن قدرة الفدائيين على صناعة أسطورة الصمود في غزة.
لماذا هذا الهجوم المنسق على الثقافة الفلسطينية في الغرب؟
صحيح أن الولايات المتحدة وحلفاءها شركاء في حرب غزة على المستويات العسكرية والسياسية، لكن لم يسبق أن بلغت الأمور إلى حد ملاحقة المثقفين والفنانين، وتهديدهم بالقتل.
ماذا يجري؟
في الماضي، لم يجرؤ أحد على منع ترجمات كتب غسان كنفاني، على الرغم من تهمة الارهاب التي ألصقها به الصهاينة تمهيداً لاغتياله. حتى في إسرائيل لم تمنع كتبه. أما اليوم، في زمن العنصرية والتوحش، فكل شيء صار مباحاً.
وفي الواقع، كانت إسرائيل أول من افتتح هذه الحملة المكارثية، عبر محاولتها منع حفلات مغني الراب الفلسطيني تامر نفار، وقيامها مؤخراً باعتقال الفنانتين ميسا عبد الهادي ودلال أبو آمنة، لأنهما كتبتا على وسائل التواصل الاجتماعي شعارات مؤيدة لغزة. وتبلغ المسخرة ذروتها مع اعتقال أبو آمنة التي كتبت على «الفيسبوك» شعار «لا غالب إلا الله»، فاعتبر هذا الشعار الذي يزين حيطان قصر الحمرا في غرناطة، تحريضاً ضد اسرائيل.
إن تاريخ إسرائيل في اضطهاد الشعراء والفنانين ليس جديداً، فهو بدأ مع تأسيس الدولة العبرية على أنقاض الشعب الفلسطيني، غير أن الجديد الذي يعيدنا إلى أسوأ أيام المكارثية الأمريكية هو هذه الحملة على كل من يؤيد الفلسطينيين ويعترض على مذابح غزة سواء أكان فلسطينياً أو مكسيكياً أو أمريكياً. كأن هناك قراراً اتخذ بسحق الفلسطينيين وإخراسهم.
من عارضة الأزياء جيجي حديد، التي لم يكتفوا باضطهادها في ميدان العمل، بل تلقت تهديدات بالقتل هي وجميع أفراد عائلتها، وصولاً إلى هوليوود حيث وصل اضطهاد الفنانين إلى ذروته مع الممثلة سوزان ساراندون، الحائزة على جائزة الأوسكار التي ألغي التعاقد معها، وصولاً إلى استبعاد الممثلة المكسيكية ميليسا باريرا من فيلم «سكريم 7»، والقائمة تطول. أما مغني الروك الإنكليزي روجر ووتريز، فقد منعت حفلاته في فرانكفورت وميونيخ بدعوى معاداة السامية.
هذه عينة صغيرة من الحرب الثقافية التي تنتشر اليوم في الغرب، وخصوصاً في الجامعات حيث يتعرض الطلاب الفلسطينيون لشتى أنواع الاضطهاد وصولاً إلى القتل، ويُدفع بعض رؤساء الجامعات إلى الاستقالة.
أما كبير المؤرخين الإسرائيليين إيلان بابيه، فقد قامت دار النشر الفرنسية «فايار»، التي نشرت ترجمة لكتابه «التطهير العرقي في فلسطين»، بسحب الكتاب من الأسواق كنتيجة لمواقف بابيه الجذرية المؤيدة للفلسطينيين. وبابيه كتب عن مؤشرات بداية نهاية المشروع الصهيوني، وهذا سبب كاف كي تسحب كتبه من الأسواق، ويتعرض في فرنسا لاضطهاد سبق له أن تعرض لما يشبهه في جامعة حيفا.
هذه الأصوات الشجاعة والنبيلة تستحق التحية، ففلسطين ليست أرضاً وشعباً فقط، بل هي مجموعة من القيم الأخلاقية التي سوف تجد دائماً من يدافع عنها.
خلاصة القول أن الثقافة الفلسطينية تتعرض اليوم لخطر الابادة، وأن الصوت الفلسطيني يجب أن يتم إخراسه.
وهذا ما حصل عام 1948، لم يبق في الثقافة الاسرائيلية سوى الفلسطيني الشبح، واضطُهد اللاجئون في بلدان اللجوء، واعتقد العالم أن قضية فلسطين يمكن اختصارها بالإعاشة التي تقدمها الأونروا.
غير أن المفاجأة أتت من حيث لا يتوقعون؛ فقد قامت الثقافة الفلسطينية بترميم نفسها عبر الشعر أولاً، معيدة انتاج الهوية على كافة المستويات، وتحول الفدائيون إلى كلمات جديدة تكتبها الدماء والتضحيات.
لقد تعلم الإسرائيليون وحلفاؤهم الغربيون الدرس جيداً، فاذا أردت أن تبيد شعباً أو تمحوه، عليك أن تدمر ثقافته وتمحوها تمهيداً لتهميشه بشكل نهائي.
وهذه معركة كبرى يخوضونها مستخدمين جميع أنواع الأسلحة المتوفرة، من تهمة اللاسامية إلى تحويل الرهاب من الإسلام إلى فلسطينو- فوبيا، وصولاً إلى الكشف عن العنصرية التي اختبأت طويلاً في كلمات المساواة وحقوق الإنسان.
المثقفون الإسرائيليون، الذين وصفهم إدوارد سعيد في عز ازدهار النتاج الأدبي والفكري الإسرائيلي بأنهم مجرد مثقفي ضواحٍ، يبدو أنهم صاروا في الهامش أمام صعود بن غفير وأمثاله من القتلة والسفاحين. كأن المجتمع الصهيوني في مرحلة توحشه يسعى لتوحيش الفلسطينيين عبر إخراسهم وسحق ثقافتهم.
هذه هي المعركة التي علينا أن لا نستهين بها، فمعركة الثقافة هي أحد أوجه معركة الوجود، وهي معركة الثقافة العربية بأسرها وليست معركة الفلسطينيين وحدهم.