مقدمة:
ترافق مع مفهوم تسوية النزاعات الدولية مفهوم آخر هو "الطرف الثالث"، وهو طرف يوكل له العمل على تسوية النزاع، وقد يكون الطرف الثالث دولة أو مجموعة دول أو منظمة دولية أو إقليمية أو هيئة حكومية أو غير حكومية، وصولاً إلى أن يكون الطرف الثالث شخصية دولية، لكن الدور الذي يقوم به الطرف الثالث يتراوح بين أنماط ثلاثة من آليات التسوية المتعددة، والتي أشارت لها المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة،[2] وهي:
1. الوساطة mediation : يتدخل الطرف الثالث في نقل وجهات النظر للأطراف المتنازعة، ويقدم اقتراحاته لتقريب وجهات النظر، دون أن يتمتع بصفة الإلزام لأي من طرفي النزاع.
2. التحكيم arbitration : يختار أطراف النزاع طرفاً ثالثاً لتسوية النزاع، مع الاقرار المسبق بالموافقة على التسوية التي يقترحها المحكم.
3. التقاضي judicial : عرض النزاع على جهة قضائية ذات اختصاص لإصدار قرار في موضوع النزاع. وهذه الآلية هي التي سنركز عليها في موضوعنا الحالي لربطه بموضوع الحرب في قطاع غزة 2024/2023 بعد عملية طوفان الأقصى، التي قامت بها المقاومة الفلسطينية ضدّ "إسرائيل"، مع الإشارة إلى أن هيئات التقاضي الدولية متعددة، لكن تركيزنا سيتمحور حول محكمة العدل الدولية.
ويمكن اعتبار محكمة العدل الدولية الدائمة Permanent Court of International Justice التي شكلتها عصبة الأمم سنة 1921، نقطة البداية في نشوء القضاء الدولي المعاصر. وقد نظرت هذه المحكمة خلال الفترة بين 1922 و1940 في 29 قضية، وأصدرت 27 رأياً استشارياً، وعُدَّت المحكمة غير موجودة بعد استقالة قضاتها سنة 1946، وتم تحويل ملفاتها للمحكمة الجديدة التي تم إنشاؤها كأحد هيئات الأمم المتحدة United Nations (UN) التي ورثت عصبة الأمم League of Nations سنة 1945 وأصبحت بديلاً عنها. وشرعت المحكمة الجديدة في النظر في القضايا الدولية بدءاً من سنة 1947 حين نظرت في قضية بين بريطانيا وألبانيا. وتضم المحكمة 15 قاضياً، ومدة تولية المنصب هي تسع سنوات، ويتم استبدال خمسة قضاة كل ثلاث سنوات (بعد أن يكمل كل منهم مدته وهي تسع سنوات)، ويتم الانتخاب في الجمعية العامة UN Security Council وفي مجلس الأمن UN General Assembly بشكل متزامن، ويجب أن يحصل الفائز على أغلبية مطلقة، ويجوز للقاضي أن ينتخب أكثر من مرة.[3]
أولاً: عمل المحكمة:
تنظر المحكمة في نمطين من القضايا، قضايا قانونية يتقدم بها أعضاء من الأمم المتحدة وممن وافقوا على النظام الأساسي للمحكمة، أو تقدم استشارات قانونية تطلبها مؤسسات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، ولا تختص المحكمة بالنظر في نزاع إلا إذا قبلت الدول المعنية اختصاصها بواحدة أو أكثر من الطرق التالية:[4]
1. إبرام اتفاق خاص لعرض النزاع على المحكمة.
2. بموجب شرط الاختصاص القضائي، أي عادةً، عندما تكون هذه الدول أطرافاً في معاهدة تحتوي على حكم يجوز بموجبه، في حالة وجود نزاع من نوع معين أو خلاف حول تفسير أو تطبيق المعاهدة، أن يحيل أحدهما النزاع إلى المحكمة.
3. من خلال الأثر المتبادل للإعلانات الصادرة عنهما بموجب النظام الأساسي، حيث قبل كل منهما اختصاص المحكمة باعتباره إلزامياً في حالة نشوب نزاع مع دولة أخرى أصدرت إعلاناً مماثلاً. ويتضمن عدد من هذه الإعلانات، التي يجب إيداعها لدى الأمين العام للأمم المتحدة، تحفظات تستثني انماطاً معينة من النزاعات.
4. يمكن لأي من طرفي الدعوى أن يطلب عدم السماح بنشر القضية للرأي العام أو السماح للإعلام بالحضور ومتابعة وقائع الدعوى.
5. تعد أحكام المحكمة نهائية وغير قابلة للاستئناف.
6. إذا لم يلتزم أحد الأطراف بالقرار، فمن حقّ الطرف الآخر دعوة مجلس الأمن للنظر في اتخاذ الإجراءات ضدّ الطرف الذي لم يلتزم بالقرار، وهذا الإجراء هو الإجراء العادي. ومع ذلك، يمكن تعديل مسار الإجراءات بإجراءات عرضية من قبيل:
أ. الاعتراضات الأولية، كالتي تثار للطعن في اختصاص المحكمة في البت في موضوع الدعوى (قد تزعم الدولة المدعى عليها، على سبيل المثال، أن المحكمة غير مختصة أو أن الطلب غير مقبول). وهو أمر متروك للمحكمة نفسها للبت فيه.
ب. تدابير مؤقتة، وهي التي يمكن أن تطلبها الدولة المدعية إذا رأت أن الحقوق التي تشكل موضوع طلبها معرضة لخطر داهم.
ج. يجوز للدولة أن تطلب الإذن بالتدخل في نزاع يتعلق بدول أخرى إذا رأت أن لها مصلحة ذات طبيعة قانونية في القضية موضوع الدعوى، وخصوصاً التي قد تتأثر بالقرار المتخذ.
د. وينص النظام الأساسي أيضاً على الحالات التي تفشل فيها الدولة المدعى عليها في المثول أمام المحكمة، إما لأنها ترفض اختصاص المحكمة تماماً أو لأي سبب آخر، وإن عدم حضور أحد الأطراف لا يمنع الإجراءات من أخذ مجراها، على الرغم من أنه يجب على المحكمة أن تتأكد أولاً من أنها مختصة.
هـ. إذا وجدت المحكمة أن الأطراف في إجراءات منفصلة يقدمون نفس الحجج والدفوع ضدّ خصم مشترك فيما يتعلق بالقضية نفسها، فيجوز لها أن تأمر بضم الإجراءات.[5]
ثانياً: موضوع الإبادة الجماعية:
يشير سجل محكمة العدل الدولية إلى أنها نظرت في 172 قضية، وأصدرت فيها 26 رأياً استشارياً، والملاحظ أن المدة الزمنية لإصدار الرأي الاستشاري تراوحت في القضايا التي صدر فيها رأياً استشارياً بين 3-1 أعوام، لكن أغلب القضايا استغرقت عاماً (مثل موضوع الجدار الذي بنته "إسرائيل" في الأراضي المحتلة، إذ تمّ تقديم الشكوى سنة 2003، وأصدرت المحكمة رأيها الاستشاري سنة 2004)، بينما الموضوعات ذات الطابع القانوني خصوصاً تلك التي تمس هيئات الأمم المتحدة تستغرق ثلاثة أعوام.[6] وهناك حالياً 20 قضية معلقة إلى جانب قضيتان يتم النظر فيهما حالياً، وكلاهما له علاقة بالنزاع بين أوكرانيا وروسيا.[7]
والملاحظ أن القضايا المعلقة تضم ثلاث قضايا لها علاقة بفلسطين، هما دعوى بخصوص آثار السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة والقدس (2023)، ومن المفروض أن يتم الاستماع للقضية في شباط/ فبراير 2024،[8] وموضوع نقل السفارة الأمريكية للقدس (2018)،[9] وموضوعات حقوق الإنسان الفلسطيني. والملاحظ أن سجلات الجمعية العامة للأمم المتحدة تنطوي على 299 إشارة لآراء استشارية من محكمة العدل الدولية تتعلق كلها بانتهاكات "إسرائيل" لقواعد القانون الدولي.[10]
ثالثاً: دعوى جنوب إفريقيا ضد "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية:
تقدمت دولة جنوب إفريقيا بدعوى قضائية ضدّ "إسرائيل" في 2023/12/29، وتشير جنوب إفريقيا في دعواها بأن "إسرائيل" تقوم بإبادة جماعية للفلسطينيين، مستندة على الوقائع الموثقة التالية:
1. عمليات القتل والتشويه التي تمارسها "إسرائيل" على نطاق واسع ضدّ المدنيين الفلسطينيين.
2. استخدام القنابل "الغبية" ضدّ المدنيين.
3. الإجبار للمدنيين على النزوح الجماعي وتدمير الأحياء التي يعيشون فيها.
4. حرمان المدنيين من الحصول على الغذاء والماء والرعاية الطبية والمأوى والملابس والنظافة والصرف الصحي.
5. التحريض على القتل والتدمير استناداً لسلسلة من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، بما فيها الدعوة لاستخدام القنابل الذرية.
رابعاً: سيناريوهات مجريات القضية في المحكمة:
يمكن القول بأن قرار المحكمة الذي صدر في 2024/1/26 هو محصلة تنازع بين اعتبارين، هما: الاعتبار السياسي من ناحية، واعتبار النزاهة القضائية من ناحية ثانية. وسنحاول تحديد هذين البُعدين:
1. الاعتبارات السياسية في أحكام القضاء الدولي:[11] ينتمي قضاة المحكمة التي أصدرت القرار إلى 15 دولة، وتتألف المحكمة بهيئتها الحالية من: رئيس أمريكي ونائب الرئيس من روسيا، ومن 13 قاضياً ينتمون للجنسيات التالية: مغربي ولبناني وصومالي وأوغندي وبرازيلي وألماني وفرنسي وأسترالي وياباني وسلوفاكي وهندي وجامايكي وصيني، ويغلب على هؤلاء القضاة أنهم إما كانوا موظفين في وزارة الخارجية أو وزارة العدل في بلادهم (7 منهم)، أو ممثلين لبلادهم في الأمم المتحدة (3 منهم)، أو أكاديميين وعملوا في هيئات قضائية (5 منهم).[12]
وتتمثل الاعتبارات السياسية في:[13]
أ. على الرغم من أن الترشح لعضوية هيئة المحكمة غير مقتصر على الدول، إلا أن أغلب الترشيحات تأتي من الدول، وهو ما ينطوي على احتمال التواطؤ بين الدولة ومرشحها.
ب. أن الجهتان اللتان توافقان على انضمام القاضي إلى هيئة المحكمة هما مجلس الأمن والجمعية العامة في اجتماع متزامن، ولكن كل منها على حدة، ولعل هذا الأمر يعطي الدولة مجالاً لممارسة علاقاتها مع الدول الأخرى للتصويت لصالح مرشحها، وهو ما يعني استمرار حاجة القاضي المترشح لمساندة دولته له.
ج. لما كان قانون المحكمة يتيح للمرشح الفائز أن يترشح لمرة أخرى بعد سنوات العضوية التسع، فإن ذلك يجعله أقرب لعدم تجاهل سياسات حكومة بلاده نظراً لحاجته لمساندتها في الجمعية العامة ومجلس الأمن مرة أخرى.
د. مدى تأثير التوجهات السياسية للدولة على توجهات القاضي التابع لها، ويكفي أن نعطي مثالاً على ذلك في موضوع الجدار الذي بنته "إسرائيل" في الأراضي المحتلة للفصل بين المواطنين الفلسطينيين والإسرائيليين، فقد وافقت المحكمة بأغلبية 14 ضدّ واحد هو القاضي الأمريكي، وهو ما يشي بأن موقف بلاده كان له الاعتبار الأهم في تصويته[14]، لا سيّما أن هذا القاضي الأمريكي كان موظفاً في وزارة الخارجية الأمريكية.
هـ. تبين من دراسة أكاديمية بالقياس الكمي حول مدى التحيز في تصويت القضاة على القضايا المطروحة أمام المحكمة ما يلي:[15]
• أن القضاة يراعون عند التصويت مواقف الدول التي تعينهم أو ينتمون لها بنسبة تقارب 90%، بينما صوّت القضاة بنسبة 10% ضدّ توجهات دولهم.
• إذا كانت دولة القاضي غير منخرطة في النزاع، فإن القضاة يميلون غالباً إلى الدول التي تتماثل مع دولهم الأصلية في مجال النظام السياسي أو مستوى الدخل أو التشابه الثقافي في اللغة والدين خصوصاً.
• أن القضاة يتأثرون بشكل عام في تصويتهم بالتحالفات الإقليمية والعسكرية مع دولتهم، لكن هذا التحيّز أضعف من التحيز في المؤشرات الأخرى.
بناء على ما سبق، يمكن اعتبار التصويت في الجمعية العامة على قرار وقف إطلاق النار في غزة مؤشراً على موقف القضاة من موضوع إدانة "إسرائيل" في الدعوى التي رفعتها ضدها جنوب إفريقيا، وهو ما يتضح في الجدول التالي:
2. الاعتبار القانوني: تُعدُّ النزاهة القضائية واحتكام القاضي لضميره شرطاً ضرورياً لتحقيق العدالة في كل مستويات القضاء المحلي أو الدولي، لكن النتائج التي أشرنا لها عن معامل الارتباط الإحصائي الكبير بين مواقف الدول ومواقف القضاة يشير إلى أن المعيار السياسي يعلو على النزاهة القضائية لكنه لا يلغيه، وهو ما يجعل القرارات شكلاً من أشكال التكييف القانوني مع الاعتبارات السياسية.
خامساً: تحليل قرار المحكمة في موضوع الإبادة الجماعية في قطاع غزة:
من الضرورة الإشارة إلى أن الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضدّ "إسرائيل" وتتهمها بارتكاب أعمال غير إنسانية تقع في خانة "الإبادة الجماعية" لها أهمية خاصة من حيث رمزية جنوب إفريقيا في الذهن العالمي، فهي دولة خَبِرَت الاستعمار الاستيطاني وأقسى أشكال العنصرية، كما أسهم المجتمع الدولي في مساندتها للتخلص من ذلك الاستعمار، ناهيك عن أنها تمثل إحدى القوى الإفريقية المهمة (نحو 60 مليون نسمة)، وتختزن النخبة الحاكمة الحالية في جنوب إفريقيا في ذاكرتها السياسية أشكال الدعم الإسرائيلي المختلفة لحكومة الاستعمار الاستيطاني لها.[18]
ويقتضي تحليل قرار المحكمة الموازنة بين الاعتبارات السياسية والقانونية في صياغة القرار، وهو ما يتبين لنا في الجوانب التالية:[19]
1. قبول الدعوى ورد الطعن الإسرائيلي:
شكَّل قبول المحكمة للدعوى إقراراً بعدم الأخذ بالطلب الإسرائيلي برد الدعوى، وهو ما يعني إقراراً ضمنياً بأن "إسرائيل" قامت بأعمال تعطي المحكمة الحق في الاستجابة للنظر في الدعوى الجنوب إفريقية، وهو ما يمكن الاستدلال عليه عند تفحص النص التالي من ديباجة القرارات، حيث ورد النص التالي:
"فيما يتعلق بما إذا كانت الأفعال وجوانب القصور التي اشتكى منها المدعي تبدو وكأنها يمكن أن تندرج ضمن أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية، تشير المحكمة إلى أن جنوب إفريقيا تعتبر إسرائيل مسؤولة عن ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة وعن الفشل في منع والمعاقبة على أفعال الإبادة الجماعية، وتزعم جنوب إفريقيا أن إسرائيل انتهكت أيضاً التزامات أخرى بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك تلك المتعلقة بـ"التآمر لارتكاب الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، ومحاولة الإبادة الجماعية، والتواطؤ في الإبادة الجماعية"".
ومن وجهة نظر المحكمة، يبدو أن بعض الأفعال وحالات التقصير التي زعمت جنوب إفريقيا أن "إسرائيل" ارتكبتها في غزة يمكن أن تندرج ضمن أحكام الاتفاقية.
من الواضح أن مضمون النص السابق الذي اعتمدته المحكمة في عرض حيثيات القبول بالدعوى يشير إلى أن واقعة ارتكاب أفعال الإبادة لها أسس كافية أخذت بها المحكمة، وهو أمر سيبقى من وجهة نظر المحكمة مرافقاً لـ"إسرائيل"، لأن المحكمة تخلُص طبقاً لمنطوق ديباجة قرارها إلى أن جنوب إفريقيا لديها الحق في أن تعرض عليها النزاع مع "إسرائيل" بشأن الانتهاكات المزعومة للالتزامات بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية:
"من وجهة نظر المحكمة، فإن الحقائق والظروف المذكورة أعلاه كافية لاستنتاج أن بعض الحقوق التي تطالب بها جنوب إفريقيا على الأقل والتي تسعى إلى حمايتها هي حقوق معقولة، لأن هذا هو الحال فيما يتعلق بحق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية" والأفعال المحظورة ذات الصلة المحددة في المادة الثالثة، وحق جنوب إفريقيا في السعي إلى امتثال إسرائيل للالتزام بنصوص الاتفاقية.
2. طلبت المحكمة من "إسرائيل" بالالتزام بما يلي:
أ. أن تضمن "وبشكل فوري"، وفقاً لالتزاماتها بموجب الاتفاقية، بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة:
"باتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأعمال المتضمنة في نطاق المادة الثانية من هذه الاتفاقية، وعلى وجه الخصوص:
أ. القتل لأفراد المجتمع.
ب. التسبب في وقوع أضرار خطيرة جسدياً أو عقلياً.
ج. فرض ظروف معيشية متعمدة على السكان في غزة من أجل تنفيذ أعمال التدمير المادي كلياً أو جزئياً.
د. فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات."
إن النص السابق في القرار يستدعي التَّنبه إلى أنه في مضمونه يُضيِّق وبشكل كبير حركة القوات العسكرية الإسرائيلية، فكيف ستمارس "إسرائيل" عملياتها العسكرية في ظلّ القيود المنصوص عليها، وصحيح أن القرار تجنب النص الواضح على "وقف إطلاق النار" الذي طالبت به جنوب إفريقيا وساندتها أطراف أخرى، كما جرى في تصويت الجمعية العامة على طلب وقف إطلاق النار 2023/12/12.[20] ومن الواضح أن تنفيذ البنود التي نصت عليها المحكمة سيجعل العمليات العسكرية الإسرائيلية أكثر تعقيداً بالرغم من أنه لم ينص على وقفها، وقد يقول البعض إن "إسرائيل" لا تولي اهتماماً لذلك، وهنا نسأل: هل كانت ستلتزم لو نص القرار على وقف إطلاق النار؟ نحن نرى أن النص هو أقرب لضبط العمليات العسكرية، فإذا التزمت بها "إسرائيل" (وهو أمر موضع شكّ كبير) فإن ذلك سيضعف آلية الضغط على المجتمع الغزي وبالتالي يُخفِّف بعض العبء عن المقاومة، وإذا لم تلتزم "إسرائيل" فإن موقفها القانوني سيصبح أكثر تعقيداً أمام المجتمع الدولي.
ب. تدعو المحكمة في قراراتها إلى أن "تلتزم إسرائيل باتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية فيما يتعلق بأعضاء المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة". ولعل تصريحات بعض الوزراء الإسرائيليين في اللحظات الأولى لإعلان قرارات المحكمة تندرج تحت هذا البند، فقد اتهم عدد من الوزراء بمن فيهم بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu المحكمة بالتحيز وبمعاداة السامية،[21] وهو ما يشكل بداية الانتهاك للقرارات.
ج. تطالب المحكمة "إسرائيل" بضرورة اتخاذ "إجراءات فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية اللازمة بشكل عاجل لمعالجة الظروف المعيشية غير المواتية التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة". ونرى أن هذا النص ملزم لـ"إسرائيل"، ولكنه يفتح الباب أمام مصر—إذا أرادت—أن تفتح معبر رفح على مصراعيه استناداً إلى أن ذلك تطبيق لقرارات المحكمة الدولية سواء وافقت "إسرائيل" أم لم توافق، فقرار المحكمة يمثل سنداً قانونياً لمصر.
د. تدعو المحكمة "إسرائيل" إلى اتخاذ "إجراءات فعالة لمنع تدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بالادعاءات المتعلقة بالأفعال التي تدخل في نطاقها المادة الثانية والمادة الثالثة من اتفاقية منع الجريمة والمعاقبة عليها"، أي أن على "إسرائيل" أن لا تقوم بإخفاء ما قامت به من أعمال تقع ضمن جريمة الإبادة الجماعية للتملُّص من عواقب ذلك، وهو ما يعني ضمنياً إقرار من المحكمة بأن ثمة شواهد مادية على فعل الإبادة، وعليه فالمحكمة تريد الحفاظ على هذه الشواهد.
هـ. طالبت المحكمة من "إسرائيل" تقديم تقرير إلى المحكمة بشأن جميع التدابير المتخذة على أن يتضمن دلائل على أن "إسرائيل" نفذت التزاماتها بهذا الخصوص، وحددت المحكمة مدة تنفيذ ذلك خلال شهر واحد من تاريخ إصدار المحكمة قراراها (أي يوم 26 من شهر شباط/ فبراير القادم). وهو ما يعني أن استمرار القتال بالكيفية التي مارستها "إسرائيل" في الشهور السابقة سيضيف بنوداً جديدة من المخالفات إلى قائمة الاتهامات لها، مما سيجعل موقفها القانوني أكثر تعقيداً.
و. أبدت المحكمة "قلقاً بالغاً إزاء مصير الرهائن الذين تمّ اختطافهم خلال الهجوم على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، واحتجزتهم منذ ذلك الحين منظمة حماس وغيرها من الجماعات المسلحة"، ودعت المحكمة إلى إطلاق سراحهم فوراً ودون قيد أو شرط.
ومن الواضح أن هذا الطلب يمثل "مكسباً إسرائيلياً"، وقد تتكئ عليه "إسرائيل" للتذرع بأن عدم الاستجابة له من قبل المقاومة يبرر له اتخاذ إجراءات يتم تفسيرها بأنها "لتنفيذ قرار المحكمة" في هذا الخصوص.
سادساً: التقييم للقرار:
إذا استثنينا القرار الخاص بالإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة (فوراً ودون شروط)، فإن القرار وإن لم يتضمن شروطاً واضحة بخصوص وقف إطلاق النار إلا أن قبول الدعوى والإجراءات التي طلبها القرار من "إسرائيل" وخصوصاً تقديم تقرير عن مدى الالتزام الإسرائيلي بمطالب المحكمة خلال شهر يمثل جانباً مهماً من قرارات المحكمة.
وقد تكون الاتصالات الأخيرة الأمريكية مع جنوب إفريقيا قبل صدور القرار جزءاً من "الاعتبارات السياسية" في صياغة القرارات. وهناك العديد من الدراسات المتخصصة التي تناولت سابقاً التأثير الأمريكي على المحكمة.[22] كما أن مناقشات الغرف المغلقة ربما كان لها دورها في ذلك إلى الحد الذي جعل بعض فقهاء القانون الدولي يرون صعوبة التغاضي عن الاعتبارات السياسية في قرارات المحكمة.[23] وعليه فإن التقرير الذي يجب على "إسرائيل" أن تقدمه خلال شهر قد يدفع حكومة نتنياهو إلى خطوتين (إذا قامت بتقديم التقرير المطلوب من المحكمة):
1. محاولة الظهور بمظهر أقل خشونة في عملياتها العسكرية بهدف غواية المحكمة نحو عدم اتخاذ قرارات تتضمن مخالفات جديدة لـ"إسرائيل"، لا سيما وأن الانتقادات لـ"إسرائيل" في هذا الجانب وردت من بعض حلفائها ومن منظمات دولية ذات علاقة بموضوع القضية المطروحة على المحكمة، وهو ما ورد في مبررات قبول المحكمة للدعوى.
2. ستعمل "إسرائيل" على استغلال قرار المحكمة بالإفراج عن المحتجزين، وهو ما يستوجب على المقاومة وجنوب إفريقيا (ومن انضم إليهما) إثارة موضوع الأسرى الذين اعتقلتهم "إسرائيل" في غزة خلال الحرب على أقل تقدير (ناهيك عن من كان معتقلاً قبل الحرب)، ويمكن للمقاومة أن تتذرع بأن المحتجزين موزعون في مناطق عديدة ومتباعدة، وهناك مخاطر من نقلهم بسبب تواجد القوات الإسرائيلية في ميدان العمليات، وهو ما يستوجب مغادرة القوات الإسرائيلية مسرح العمليات لتتمكن المقاومة من التواصل مع خلاياها المشرفة على رعاية هؤلاء المحتجزين.
الهوامش:
[1] وليد عبد الحي : خبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية، أستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك في الأردن سابقاً، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وهو عضو سابق في مجلس أمناء جامعة الزيتونة في الأردن، وجامعة إربد الأهلية، والمركز الوطني لحقوق الإنسان وديوان المظالم، والمجلس الأعلى للإعلام. ألَّف 37 كتاباً، يتركز معظمها في الدراسات المستقبلية من الناحيتين النظرية والتطبيقية، ونُشر له نحو 120 بحثاً في المجلات العلمية المحكّمة.
[2] تشمل آليات التسوية أنماطاً متعددة مثل: التفاوض والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية واللجوء إلى الوكالات أو الترتيبات الإقليمية واللجوء إلى الأمم المتحدة أو غيرها. انظر:
Pacific Settlement of Disputes (Chapter VI of UN Charter), site of United Nations Security Council, https://www.un.org/securitycouncil/content/pacific-settlement-disputes-chapter-vi-un-charter
تشتمل أيضاً أدوار الطرف الثالث على هذه الآليات، انظر التفاصيل في:
Richard B. Bilder, “International Third Party Dispute Settlement,” Denver Journal of International Law & Policy, University of Denver, vol. 17, No. 3, January 1989, p. 480.
[3] History, site of International Court of Justice (ICJ), https://www.icj-cij.org/index.php/history
[4] How the Court Works, ICJ, https://www.icj-cij.org/index.php/how-the-court-works
[5] Ibid.
[6] List of All Cases, ICJ, https://www.icj-cij.org/list-of-all-cases
[7] Pending cases, ICJ, https://www.icj-cij.org/index.php/pending-cases
[8] Legal Consequences arising from the Policies and Practices of Israel in the Occupied Palestinian Territory, including East Jerusalem, ICJ, https://www.icj-cij.org/case/186
[9] Relocation of the United States Embassy to Jerusalem (Palestine v. United States of America), ICJ, https://www.icj-cij.org/case/176
[10] ICJ, https://www.icj-cij.org/sites/default/files/case-related/186/186-20230531-req-01-03-en.pdf; and Legal Consequences arising from the Policies and Practices of Israel in the Occupied Palestinian Territory, including East Jerusalem, ICJ, https://www.icj-cij.org/case/186
[11] Grant R Niemann, Should political influence in the decision–making processes of international courts and tribunals be anticipated?,” Arts and Humanities Open Access Journal, vol. 2, Issue 4, 2018, p. 212.
[12] Current Members, ICJ, https://www.icj-cij.org/index.php/current-members
[13] Members of the Court, ICJ, https://www.icj-cij.org/members
[14] Legal Consequences of the Construction of a Wall in the Occupied Palestinian Territory, International Court Of Justice, General List, No. 131, , 9/7/2004, site of UNISPAL, https://www.un.org/unispal/document/auto-insert-204033
[15] Eric A. Posner and Miguel F. P. de Figueiredo, “Is the International Court of Justice Biased?,” The Journal of Legal Studies, vol. 34, no. 2, June 2005, pp. 14–24.
[16] Current Members, ICJ, https://www.icj-cij.org/index.php/current-members
[17] UN General Assembly votes overwhelmingly in favour of Gaza ceasefire, site of AlJazeera, 12/12/2023, https://www.aljazeera.com/news/2023/12/12/un-general-assembly-votes-overwhelmingly-in-favour-of-gaza-ceasefire
[18] Sasha Polakow-Suransky, The Unspoken Alliance: Israel’s Secret Relationship with Apartheid South Africa (Jacana Media, 2010), pp. 39–52.
[19] انظر بشكل خاص الصفحات 75-84 في نص قرارات المحكمة، في:
Application of the Convention on the Prevention and Punishment of the Crime of Genocide in the Gaza Strip (South Africa v. Israel), 26 January 2024, Order, ICJ, https://www.icj-cij.org/sites/default/files/case-related/192/192-20240126-ord-01-00-en.pdf
[20] الجمعية العامة تعتمد قرارا بشأن التصعيد في غزة وإسرائيل، يطالب بوقف إنساني لإطلاق النار، موقع أخبار الأمم المتحدة، 12/12/2023، في: https://news.un.org/ar/story/2023/12/1126927
[21] Israeli officials accuse international court of justice of antisemitic bias, site of The Guardian newspaper, 26/1/2024,
https://www.theguardian.com/world/2024/jan/26/israeli-officials-accuse-international-court-of-justice-of-antisemitic-bias
[22] انظر على سبيل المثال:
Sean D. Murphy, “The United States and the International Court of Justice: Coping with Antinomies,” in Cesare Romano (ed.), The United States And International Courts And Tribunals (2008),
https://scholarship.law.gwu.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1902&context=faculty_publications
[23] Top Experts’ Views of Int’l Court of Justice Ruling on Israel Gaza Operations (South Africa v Israel, Genocide Convention Case), site of Just Security, 26/1/2024, https://www.justsecurity.org/91457/top-experts-views-of-intl-court-of-justice-ruling-on-israel-gaza-operations-south-africa-v-israel-genocide-convention-case