قبل تحرير الجنوب، كانت للعملاء (كانوا يسمّون عصاباتهم "جيش لبنان الجنوبي") إذاعة سمّوها "صوت الجنوب". كانت تلك الإذاعة تسمّي المقـاومة "مخرّبي ميليشا العدو الإيراني - السوري". وكان خطاب العملاء قائماً على فكرة أن أهل الجنوب يريدون السلام مع "إسرائيل"، وأن ما يمنع تحقيق السلام ليس سوى إرادة التخريب الإيراني - السورية.
بعد العام ٢٠٠٥، ورث جزء من ١٤ آذار الخطاب نفسه، وبات يتحدّث عن إرادة إيرانية - سورية، لا علاقة لها بلبنان واللبنانيين، تفرض استمرار الصراع مع "إسرائيل". وبهدف منح هذا الخطاب صدقية واقعية، جرى العمل على نفي لبنانية أي جهة تحمل، بالفعل لا بالقول حصراً، لواء معاداة "إسرائيل".
بعد الحرب السورية، أسقط هؤلاء البعد السوري، وحصروا أمر العداء لكيان الاحتلال بإيران، مع التشديد على نفي لبنانية معادي "إسرائيل"، وصولاً إلى حد نفي فلسطينية من يعادي الاحتلال في فلسطين نفسها.
في الحالتين، اللبنانية والفلسطينية، ليس المستهدف من يقول إن "إسرائيل" عدو، بل المستهدف هو من تقول "إسرائيل" انه عدو لها.
هذا الخطاب ليس من بنات أفكار مطلقيه، بل هو قرار أميركي - إسرائيلي، تبنّته أنظمة التطبيع حرفياً ( فؤاد السنيورة لا يكف عن دعوة حـمـ/ـاس إلى "العودة إلى الحضن العربي"، وسامح شكري يقول إن حماس خارج الإجماع الفلسطيني. الأول ساقط انتخابياً، والثاني وصل إلى مركزه بانقلاب عسكري).
هذا الخطاب وصل إلى ذروته بعد طوفان الأقصى: الإكثار من ذرف الدموع على المدنيين مع القول إن الحرب الإبادية على قطاع غزة ليست سوى حرب إيرانية - إسرائيلية، وكذلك معركة الجنوب اللبناني، تماماً كما هي معركة اليمن في البحر الأحمر وعمليات المــقـاومة العراقية.
هذا الخطاب ينفي فلسطينية الصراع، كما لبنانيته، كما يمنيته، كما عروبته. التعبير عن إرادة أكثر من ثمانين في المئة من الشعب العربي، يصبح شأناً غير عربي. أما العروبة فتعبّر عنها أنظمة التطبيع، وجميعها بلا استثناء أنظمة قمعية رجعية لديها مشكلة مع شعوبها، على الأقل في مسألة التطبيع.
خطاب "ميليشيا العدو الإيراني السوري" الذي كانت تبثه إذاعة عصابات العملاء قبل تحرير الجنوب، انتهى إلى "الحرب هي بين إيران وإسرائيل في غزة وفي جنوب لبنان".
عصابات العملاء تفككت، ومن انتقل منها إلى فلسطين صار "مواطناً إسرائيلياً صالحاً"، فحمل لواءها كلاب أميركا وعملاء السياسة والإعلام. العميل الأمني ينفّذ مهام أمنية، أما كلب أميركا والعميل السياسي والإعلامي، فليس المطلوب منه سوى القول إن الحرب هي بين إيران و"إسرائيل"، ويُسمح له بذرف ما يشاء من الدموع.
بطبيعة الحال، ليس كل من قال هذا الخطاب كلب لأميركا وعميل لإسرائيل. لكن على من يشتغل بالسياسة والإعلام أن يُنزّه نفسه عن خطاب الكلاب والعملاء، لا حرصاً على صورته والعياذ بالله، بل لئلّا يكون خطابه خدمة لـ"إسرائيل"، ولكيلا ينتهي به الأمر "تافهاً يُستفاد منه" من قبَل من ينفّذ جريمة إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره.