كان غسان الحاج في الخامسة عشرة من العمر عندما هاجر إلى أستراليا. كان الفتى القادم من الشمال اللبناني مصاباً ببداية صمم في أذنيه. لم يكن الصمم في لبنان أمراً مستغرباً خلال الحرب الأهلية، فالاعتياد على أصوات القذائف جعل كثيراً من الناس لا يسمعون أصواتهم، بحيث يعتقد الزائر أن شعباً كاملاً أصيب بالطرش.
غير أن صمم غسان الحاج لم يكن نفسياً، بل كان تعبيراً عن مشكلة أصيب بها في أذنيه بسبب انفجار قنبلة إلى جانبه جعلته يفتقد السمع بشكل تدريجي إلى أن افتقده بشكل كامل؛ ما اضطره إلى إجراء جراحة في الرأس وصلت الأصوات بموقعها في الدماغ، ما جعله يسترجع القدرة على السمع بشكل جزئي.
في أستراليا وخلال دراسته، اكتشف غسان الحاج الماركسية واهتدى إلى كتابات بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي الكبير الذي جعله يقرأ التجربة اللبنانية بعيون جديدة.
هذه العيون الجديدة دفعت غسان الحاج إلى اقتحام علم كولونيالي هو الأنثروبولوجيا. فاقتحمه ليدرس «الأمة البيضاء»، فقلب المعادلة الأنثروبولوجية رأساً على عقب؛ إذ بدلاً من أن يدرس الرجل الأبيض سكان البلاد الأصليين ليضعهم في مرتبة حضارية دُنيا، قام رجل أسمر من لبنان بدراسة وتقييم وتحليل تصرفات الرجل الأبيض على مقياس الأخلاق والقيم الإنسانية.
لم يكتف غسان الحاج بدراسة المجتمع الأسترالي حيث يقيم، بل استعاد في كتابه الأخير: «شرط الشتات: بحث إثنوغرافي عن اللبنانيين في العالم» بأسلوب ممتع وعبر رواية مجموعة من التجارب والحكايات على لسان أصحابها عن أوضاع اللبنانيين في المهجر، ونظرة اللبنانيين المقيمين في وطنهم للمهاجرين.
كتاب يخترق الحدود بين الأدب والأنثروبولوجيا ويقدم رؤية جديدة لمعنى الدراسة الأكاديمية المرتبطة بتجارب أهل البلاد الأصليين.
هذه الرحلة العلمية جعلت من غسان الحاج أحد كبار علماء الأنثروبولوجيا في العالم اليوم، حيث احتل موقعاً متميزاً إلى جانب كبار علماء الأنثروبولوجيا في العالم. وهو بذلك يستعيد تجربة إدوارد سعيد من موقع علمي مختلف من جهة حقل الدراسة، ولكنه متشابه من حيث الإصرار على الانتماء وإعطاء صوت للذين لا صوت لهم في الثقافة «العالمية» وأعني الثقافة «الغربية».
الضمير المهني والموقف الأخلاقي دفعا غسان الحاج القادم من تجربة لبنانية مريرة إلى التحول إلى صوت فلسطيني يقاوم الوحش الإسرائيلي الذي يريد إرهاب العالم بأسره.
ما يجري اليوم في غزة هو حرب إبادة بالمعنى الكامل للكلمة، فالإبادة ليست أرقاماً فقط، بل هي أيضاً تحويل شعب إلى حطام وتدمير ثقافته. إن ما يجري اليوم في أوروبا هو عملية تحويل الفلسطينيين إلى يهود اليهود.
فالثقافة الغربية لا تزال تحمل إرثاً عنصرياً لا سامياً، يبحث عن ضحية دائمة. بالأمس افترست الإسلاموفوبيا الغرب، واليوم جاءت الفلسطينوفوبيا لتحتل المساحات كلها، وتبدأ حملة صليبية ضد الفلسطينيين والعرب سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين.
ماذا جرى مع غسان الحاج في معهد «ماكس بلانك» للأنثروبولوجيا الاجتماعية في ألمانيا حيث كان يعمل كباحث زائركي يضطر إلى مغادرة المعهد غاضباً والعودة إلى جامعته في ميلبورن في أستراليا.
يمكننا أن نقرأ هذه الحكاية كفصل من حكاية ملاحقة الفلسطينيين والمؤيدين للمقاومة في غزة. الجديد هنا هو التجرؤ على مفكر وباحث من مقام الحاج من دون أي اعتبار لمكانته العلمية.
صحافيون ألمان كتبوا مقالاً في جريدة «دي فيلت» يتهمون فيه الباحث اللبناني باللاسامية. المعهد طلب من غسان الحاج مقابلتهم والمثول أمام ما يشبه التحقيق، فكان جوابه يليق بعالم لا يخوض معركته في الإعلام بل يخوضها في الميدان الثقافي الذي يؤسس للوعي.
فغادر المعهد عائداً إلى جامعته في ميلبورن-أستراليا، وغرّد على منصة إكس: «لحسن الحظ، أنا في طريقي إلى أستراليا للقاء حفيدي الأول الذي، حسب المثل اللبناني، ريحه يساوي أكثر من ألف صحافي يميني».
أما جوابه على مطالبته بمقابلة الصحافيين فكان كالتالي: «إنه مقال مليء بأنصاف الحقائق والأكاذيب الصريحة والتلميحات الخادعة. «لن أكرم هؤلاء الأشخاص أبداً بالرد: إنهم ليسوا مثقفين». وتابع: «يغتالون بالأيديولوجيا. لا يكتبون سعياً للحقيقة. يكتبون للانخراط في اغتيال الشخصية. يمكنهم الذهاب وإجراء «محادثات» مع أشخاص من نفس نوعهم».
لم يقل غسان الحاج سوى عين الكلام، فالطريقة الوحيدة للتعامل مع سُعار تهمة اللاسامية، الذي يُلقى جزافاً وكيفما اتفق، وبهدف عنصري معلن، هو الاحتقار، ووضع النقاش في إطاره الحقيقي. فنحن أمام محاولة إبادة للشعب الفلسطيني تتخذ شكلين: تدمير غزة من جهة، وتحطيم الثقافة الفلسطينية من جهة ثانية، والمحاولتان مصيرهما الفشل ولن يواجها سوى العار.