هل حقا تريد الدول العربية والولايات المتحدة وقف الحرب الاسرائيلية على غزة؟ وهل تعتقد الدبلوماسية العربية أن الواقع الدولي يمكن تغييره او التأثير فيه من خلال " النزق اللغوي" عبر الشجب والادانة ؟ وهل تُبنى الدبلوماسية العربية على اساس اولوية مصالح النظام أم اولوية مصالح الدولة والمجتمع؟ وهل تعبر الدبلوماسية العربية والقرارات السياسية العربية عن إرادة الشعوب ؟ وهل هناك نقاط تلاق بين اسرائيل والأنظمة العربية؟
أزعم أن قرار وقف اطلاق النار يمكن انجازه من خلال اعلان لدول التطبيع العربي بأنها ستلغي كل اتفاقياتها وعلاقاتها مع اسرائيل إذا لم تتوقف الحرب خلال 48 ساعة وتشرع بالانسحاب من غزة ، ولكن ما الذي يمنع هذه الدول من اتخاذ هذا القرار ؟ اقول ان الاجابة هي ان المصالح بين هذه الانظمة واسرائيل تفوق من منظور الانظمة مصالحها مع مجتمعاتها او دولها ، ويكفي تأمل ما يلي:
1- العداء التام للحركات الاسلامية بخاصة المسلحة منها، فإسرائيل ودول التطبيع او الانظمة التي تحوم حول حمى التطبيع لا يوجد فيها اي تمثيل لاي تنظيم من تنظيمات المقاومة في غزة،بل وتم تصنيف المقاومة الاسلامية في فلسطين ضمن التنظيمات الارهابية ، بينما سفارات اسرائيل ومكاتبها التجارية وسواحها وموسادها يتجولون في دول التطبيع،أليس ذلك دليل على النظر للمقاومة "كعدو مشترك" للانظمة واسرائيل ،وإلا كيف نفسر وجود سفارات اسرائيلية ومنع حتى قيادات المقاومة من فتح مكتب دعاية،بل ان البعض اعتقل وشرد هذه القيادات، انهم ينتظرون هزيمة المقاومة بل واجتثاثها بنفس حرقة اسرائيل على تحقيق هذا الهدف، لان الانظمة واسرائيل والولايات المتحدة ترى في النزعة الجهادية الواعية خطرا عليها ، بخاصة ان جمهور هذه النزعة هو الاقوى في الشارع العربي ،وهو ما اتضح في كل الانتخابات البرلمانية العربية حتى ما تم تزويره .
2- تلتقي هذه الانظمة مع اسرائيل في العداء الواضح لمحور المقاومة، فالتحريض على ايران وحزب الله وانصار الله والحشد الشعبي بل والسخرية احيانا من عمليات المساندة للمقاومة هو موقف يقف فيه الاعلام والدبلوماسية لدول التطبيع صفا واحدا مع الاعلام الاسرائيلي، وتغذي الولايات المتحدة هذا التوجه المشترك لأنظمة التطبيع واسرائيل، ووصل الأمر الى منع إمرأة من رفع علم فلسطين في دولة عربية من دول الحائمين حول التطبيع، ورغم صراخ قيادات المقاومة في غزة فان احدا لم ينصت لهم إلا رجال محور المقاومة، وما يقلق الانظمة العربية ان شعبية محور المقاومة تضاعفت في الشارع العربي بعد طوفان الاقصى طبقا لاستطلاعات الرأي التي اشرف عليها خصوم محور المقاومة، وفي احد هذه الاستطلاعات حول موقف القوى الدولية والاقليمية احتلت ايران الموقف الاول في التقييم الايجابي لموقفها، كما ان 7% فقط اعتبرها عامل تهديد للأمن العربي، وهو امر يقلق الانظمة العربية واسرائيل وامريكا معا، مما سيدفع المطبعين واسرائيل الى تبني استراتيجية جديدة لتطويق محور المقاومة بأدوات اعلامية( وهو امر بدأت ملامحه تلوح) واقتصادية( بخاصة الابتزاز القادم للمقاومة لإعادة اعمار غزة) وسياسية( بالعمل على تعميم سياسات سلطة التنسيق الامني من الضفة الى غزة ،والدفع باتجاه تعميم المبادرة العربية والشرعية الدولية والتغيير لاحقا في المناهج التعليمية بل واعتبار اي خصم لإسرائيل ضمن قوائم الارهاب.
3- ان العلاقات الامريكية مع انظمة التطبيع واسرائيل هي علاقة استراتيجية ، وهذا المحور تقوده الولايات المتحدة، ولو رصدنا درجة التوافق بين المواقف الامريكية والاسرائيلية "العملية لا النظرية" مع دول التطبيع فان النسبة لن تقل عن 90% بخاصة في التوجهات الاستراتيجية، ويكفي الاشارة الى ان النظام الاقليمي العربي هو اكثر النظم الاقليمية في العالم اختراقا من القوى المساندة لإسرائيل تحديدا.
4- تقف الولايات المتحدة على راس قائمة الدول الممولة لإسرائيل وبعض دول التطبيع ، او هي الحامي عسكريا لدول التطبيع واسرائيل ، سواء بالحماية العسكرية المباشرة او بالتزويد بالأسلحة، وإلا لماذا يوجد 27 مرفقا عسكريا امريكيا في الدول العربية المطبعة واسرائيل وفيها اكثر من 40 الف عسكري امريكي يتبعون القوات البرية والبحرية والبرية ؟ وهو ما يعني ان امن اسرائيل ليس منفصلا عن امن المطبعين، فالراعي لهما هي الولايات المتحدة، ولا تملك اية دولة عربية من دول التطبيع ان تطلب مغادرة القوات الامريكية اراضيها، ومن المؤكد ان اعلان وزارة الدفاع الأمريكية في يناير 2021 عن نقل اسرائيل من منطقة عمليات "القيادة الأمريكية الأوروبية( يوكوم ( إلى منطقة عمليات "القيادة المركزية الأمريكية" ("سينتكوم") له دلالاته ،ورَبَطَ البنتاغون في اعلان النقل بين القرار و " اتفاقيات إبراهام" التي تم توقيعها بين إسرائيل والعديد من الدول العربية باعتبارها "فرصة استراتيجية ... لتوحيد الشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة في مواجهة التهديدات المشتركة للولايات المتحدة واسرائيل وانظمة التطبيع في الشرق الأوسط، ولا يخفي ان ايران على رأس قائمة هؤلاء الاعداء .
5- ان استشهاد وجرح أكثر من مائة الف فلسطيني في غزة ، وتدمير مؤسسات ومنازل ومستشفيات تدميرا كاملا، وقطع المياه والدواء والغذاء ، لم يصل في خطورته لإقناع دول التطبيع لقطع العلاقة مع اسرائيل ، وهو ما يعني ان الحبل السري الرابط بين اسرائيل ودول التطبيع هو "امتن" مما يعتقد الكثيرون.
ولكي نوضح هذا الترابط فإننا نتساءل: منذ 1979(اعلان المعاهدة المصرية الاسرائيلية) اي قبل 45 سنة ،قطعت الدول العربية بشكل فردي او جماعي علاقاتها مع بعضها ما مجموعه حوالي 84 مرة ، وفي بعض الاحيان كان قطع العلاقات لأسباب تافهة مثل اتهام دولة لأخرى انها تتآمر عليها أو لمجرد ملاسنة بين حاكم عربي وآخر...،اما مع اسرائيل فان استقرار العلاقات بالمعنى الاستراتيجي للاستقرار هو الاساس،ولم تتجرأ اي دولة عربية على التراجع عن علاقاتها مع اسرائيل خلال ال 45 سنة بل ان التبادل التجاري مع اسرائيل يتزايد واحيانا يفوق التزايد في التجارة العربية البينية ، لماذا ؟؟
بسبب كل ما اوردناه ،فان اسرائيل لا تعير "النزق الرسمي "العربي اي اهتمام، وتواصل الحرب والقتل لأنها على يقين بأن مواقف الانظمة السياسية العربية لن تتجاوز هذا النزق اللفظي او دبلوماسية الدفاع المدني من ناحية، وأن المصالح المشتركة للمطبعين مع اسرائيل تفوق تناقضاتها معها ...وكل هذا يقنع نيتنياهو وبني غينيتس وجالانت وقبلهما جو بايدن بعدم استعجال وقف اطلاق النار.. وهو ما يستدعي تمتين العلاقة بين محور المقاومة وارادة الشعوب ، ويبدو ان محور المقاومة في طريقه الى خطوات استراتيجية " تحويلية" ستعزز مكانته في صنع القرار الاستراتيجي للمنطقة..ربما.