عندما التقيت به للمرة الأولى شعرت أنني ألتقي بشخصية شكسبيرية، تجمع الروح التراجيدية والتباسات العبث. ومع الوقت، بدأت أشعر أن ذلك الرجل صار تجسيداً حياً لشكسبير، وصرت أناديه بيني وبين نفسي باسمه الجديد، وكان اسم ذلك الرجل أنطوان ملتقى.
كانا رجلين اختصرا المسرح الحديث، منير أبودبس وأنطوان ملتقى، عملا معاً ثم ما لبثا أن افترقا؛ الأول ليذهب في خياراته الشكلية والصوفية إلى نهايتها، والآخر ليتابع بحثه عن الممثل الذي يتسيد الخشبة. لكن المسرح ما لبث أن اكتظ برموز جديدة من ريمون جبارة وعبثيته المدهشة، إلى الثنائي روجيه عساف ونضال الأشقر، اللذين أدخلا النكهة السياسة إلى المسرح، إلى جلال خوري، ثم إلى محطته الكبرى الأخيرة مع فرقة مسرح الحكواتي.
في الستينيات والسبعينيات، شكل المسرح الحديث عصب الحياة الثقافية في بيروت، بعد انخراط الشعراء في الكتابة والترجمة للمسرح، لكن هذا العصب بقي يعتمد على الأعمال المترجمة في غالبيتها الساحقة، مع استثناءات قليلة، «مجدلون» لهنري حاماتي، و«الزنزلخت» لعصام محفوظ، أما أعمال جلال خوري فكانت في معظمها اقتباسات عن بريشت. ولم تتوقف الترجمة إلا في النهاية مع فرقة «الحكواتي».
من أين جاء المؤسسان، وكيف تتأسس ظاهرة قدمت أعمالاً باهرة ثم تختفي على إيقاع الحرب الأهلية؟
هذا هو سر الثقافة اللبنانية التي تنبت في الصحراء ثم تجرفها هذه الصحراء. هذا هو سر المدرسة اللبنانية في الشعر على سبيل المثال، أين ولدت ولماذا اختفت؟ أنا لا أدعي أن الشعر أو المسرح اختفيا، فهما سيستمران ما استمرت الحياة، لكنهما قد يمران بفترات من الهبوط والتآكل.
أما صاحبنا الشكسبيري، فقد جمعتنا به صلة وثيقة عبر عنها زميلنا في كلية التربية، رئيف كرم، الذي كان يدرس الفلسفة معنا في الكلية ويتابع تنمية هوايته المسرحية في معهد الفنون الجميلة، الذي أداره أنطون ملتقى. دخل رئيف في دائرة ملتقى، وصار يمثل مع فرقته، وصرنا نحن نحضر مناقشات الفرقة وأنشطتها في قاعة سينا الأشرفية، وكنا نطلق على زميلنا اسم شكسبير. أذكر أن الأستاذ أنطوان سمع لقبه ونحن ندعو به تلميذه فغضب، ومن يومها لم نعد نداوم على حضور اجتماعات الحلقة.
أنطوان ملتقى، الذي مات في أواخر الأسبوع الماضي، أحدث بموته دوياً هائلاً من الحضور، فالغياب الكبير الذي نسميه موتاً قد يكون باباً يفتح باب الحضور وآفاقه، ويرسم علامات لا تمحى من ماضينا كأفراد وشعوب.
كيف ننسى وقفة ملتقى المدهشة وهو يمثل دور كاليغولا قائلاً إنه يريد القمر وسط أنهار الدماء التي أسالها، كأنه كان يقلّد المستبدين العرب في زمن عرض المسرحية، وأين نذهب بصورة إلياس إلياس وهو يمثل ضاعت الطاسة… صور تنهال من ذاكرة مثقلة بسكرة الفن.
في ذلك الزمن صار الفن المسرحي اللبناني يُسكر بيروت، فبيروت كانت تبحث عن صورتها من ركام الأزمنة، ووجدته في الصوت المسرحي ونحت الأشكال على الخشبة. لم يعد أصل تحت النص اللغوي أو الجغرافي مهماً، فبيكيت وهو يبحث عن غودو كان يفي بالغرض، والكراسي الفارغة على طريقة يونسكو عبّرت عن فراغ أرواحنا، والليدي ماكبث كما مثلتها لطيفة ملتقى احتلت مساحات الخيال. كانت بيروت عطشانة إلى الثقافة، وأتتها نخبة من الفنانين الذين ولدوا على قارعة الكلمات ليعلنوا ولادة نخبة مسرحية تلتقي مع أعمال الرحابنة في صوغ صورة جديدة لمراياها.
لم أشارك في التجربة المسرحية في بداياتها، لكنني شاركت فيها عندما اقتربنا من النهايات. ففي مسرح بيوت في التسعينيات، اكتشفت معنى سحر العلاقة بين الضوء والعتمة، وسحر العلاقة بين الكلمات وحياتها المتجددة على الخشبة. كنا في التسعينيات كمن يستغيث بالأدب والمسرح كي يستعيد بيروت ولا يفقدها إلى الأبد.
غير أن تلك التجربة القصيرة (التي دامت سبع سنوات فقط) علمتني أن أبني علاقتي بالجيل الذي سبقنا بالاحترام والتقدير، وأن أعي مقدار الأسى الذي أصيبوا به وهم يرون عالمهم يتفكك وأحلامهم تتساقط.
لا شيء يشبه بيروت مثل مسرحها، فعلى الخشبة كان الممثلون يتألقون، وينشرون احتمالات الحرية في مناخ امتزجت فيه المعاني، وختمه زياد الرحباني بعبارته الشهيرة: «اختلط الحابل بالنابل» وهو يطفئ في مسرحياته الأخيرة الضوء عن صالة المسرح ويغادرها.
تحية إلى الأستاذ أنطوان ملتقى.