بعد ستة أشهر على اندلاع الحرب على غزة، يكتشف الإسرائيليون أنهم دخلوا في أطول حرب في تاريخهم. حرب هي أشبه بالمأزق منها بحرب ذات أهداف.
واليوم جاء وقت مراجعة الأهداف التي وضعت والنتائج التي حصدت. هناك مجموعة من الافتراضات التي تحيط بالحرب على غزة، وكل واحد منها يحاول تفسير الأسباب العميقة التي تقع خلف الحرب.
الافتراض الأول أن الحرب كانت انتقاماً ورد فعل مباشر على هجوم الفدائيين الفلسطينيين على أراضيهم المحتلة في عملية صاعقة أذهلت العالم. غير أن تطورات الحرب أثبتت أن هذا الافتراض خاطئ، إذ بدت الحرب كفرصة أُتيحت للإسرائيليين كي يحققوا أحلامهم القديمة بإبادة الفلسطينيين.
الافتراض الثاني أن هذه الحرب تعبر عن عملية تطهيرعرقي يتصادى وقعها مع النكبة التاريخية، النكبة التي تركت إسرائيل تتعامل مع مأزق غزة وحجم سكانها الكبيرالذين هُجروا إليها في العام 1948. وهذا يعكس وجهة نظر رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق الذي سبق له ونظم مذابح اللد والرملة.
الافتراض الثالث يقوم على رؤية لتغيير بنيان السلطة داخل فلسطين، غير أن هذا الافتراض فقد قوة جذبه عندما رفضت الحكومة الإسرائيلية اقتراحات الأنظمة العربية والإدارة الأمريكية التي تدعو إلى توسيع السلطة الفلسطينية لتشمل غزة أيضاً.
الافتراض الرابع يشير إلى كون الصراع مشروعاً استراتيجياً لإعادة احتلال غزة، خصوصاً بعد تصريحات وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، لإعادة بناء المستوطنات القديمة في القطاع. وهذا يشكل جزءاً من استراتيجية عامة تهدف إلى إعادة فرض الهيمنة الإسرائيلية في الشرق الأوسط.
الافتراض الخامس أن الحرب هي أداة لفرض الهيمنة الإسرائيلية على الشرق الأوسط، وهذا يشير إلى طموح جيوسياسي إسرائيلي يسيطر على سياسة إسرائيل في المنطقة.
وأخيراً، هناك افتراض سادس يشير إلى العلاقة مع أيديولوجية جابوتنسكي التي تؤكد ضرورة هزيمة العرب على كل الجبهات. هذه السردية المنغرسة في الأصول الفاشية الصهيونية يبدو أنها تنتشر في الخطاب السائد اليوم في إسرائيل كما عبر عنها المؤرخ الإسرائيلي بني مورس، بعد انقلابه على خطابه الليبرالي القديم وتبنيه الخطاب الصهيوني خلال الانتفاضة الثانية، حين وصف الفلسطينيين بأنهم قنبلة موقوتة وطابور خامس وحيوانات متوحشة يجب وضعها في أقفاص.
في محاضرته التي ألقاها في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية في الخامس من الشهر الجاري، ووجه المؤرخ بصوت طلابي ذكّره بكلامه القديم – الجديد، فردّ موريس واصفاً هذا الصوت الطلابي بالممل. فكان جواب الطالبة: «وأنت عنصري». هنا كشف بني موريس عن وجهه الحقيقي حين قال إنه «يفضل أن يكون عنصرياً على أن يكون مملاً».
هذه الحادثة تشير إلى اتجاه سيطر على الخطاب الإسرائيلي خلال الحرب على غزة، موحين للإسرائيليين بشعور وهمي بالنصر.
وعلى الرغم من أوهام النصرهذه فلا يوجد نصر في إسرائيل. ويدعم هذه الحقيقة ثلاثة عوامل أساسية:
أولاً: المقاومة الفلسطينية المستمرة التي لم تتزحزح ولم تهزم، تبقى القوة الرئيسية في القطاع.
ثانياً: الدروس المستفادة من حرب 1948 التي حولت المؤقت إلى دائم. الآن لا يوجد من يتبنى فكرة مؤقت يتحول إلى كابوس دائم، كفكرة اللجوء عام 1948.
ثالثاً: إن الشعور بتخلي العالم العربي عن فلسطين، وضع الفلسطينيين وحدهم في مواجهة استبداد الاحتلال.
هل نواجه في تحليلنا الحرب على غزة طريقاً مسدوداً؟
من البدهي أننا وصلنا إلى طريق مسدود إذا قبلنا بأن الاحتمالات التي حللناها في هذا المقال صحيحة، عندها نكون قد دخلنا إلى انسداد كامل.
افتراضي هو أن الحرب على غزة لا تُحلل بالطرق التقليدية. إنها حرب تدمير شاملة، فالهدف الإسرائيلي الوحيد هو تدمير غزة بشكل كامل ومحوها من الوجود وتحويلها إلى مجرد آثار. وهنا يقع الخطر الأكبر بأن العالم يتفرج على تدمير مدينة تحولت إلى مدينة لاجئين ومدينة مقاومين.
كي يسقط انسداد الواقع الفلسطيني، يوجد طريق واحد يصنعه اليوم الفدائيون الفلسطينيون.
أما على المستوى الثقافي، فقد استنبط طلاب لندن أغنية هجاء في المؤرخ الإسرائيلي الذي اتهم أصواتهم بالملل؛ على غرار طالبة جامعة كامبريدج التي لم نسمع صوتها حين دخلت ترينيتي كوليدج ومزقت صورة اللورد بلفور معطية الإشارة بأن تمزيق الماضي الكولونيالي قد أزف.
*الكلمة الافتتاحية التي ألقيت في مؤتمر كرايسكي. فيينا – يوم السبت، 9 آذار/مارس 2024