وضع الساحات السياسية في اغلب البلدان العربية متشابه وتونس ليست استثناء الا من حيث شعور المشتغلين بالشأن العام فيها ان ما جرى منذ 25 جويلية 2021 الى هذا اليوم هو امر اكثر مما كان متوقعا بعد المنسوب العالي للحرية على امتداد اكثر من عشر سنوات من الديمقراطية السائلة .
سرعة العودة الى الحكم الفردي وصلابة الدولة وسرعة فسخ كل مخرجات العشرية احزابا ومؤسسات ونصوصا وتشريعات ، فضلا عن السرعة التي تم بها سجن وملاحقة او تجميد كل فاعلي الصفوف الاولى في السياسة والنشاط المدني ، مع ما رافق ذلك من سرعة القبول العام بهذه الأحداث وخفوت كل مظاهر الامتعاض الشعبي التي كانت تبرز سابقا على اقل مما يقع الان ...كل هذا التسارع بدا غريبا في بلد تنسب اليه صفة " مهد الربيع العربي " .
اتجاه بعض التحاليل السياسية الى نسبة هذا الامر الى انقسام الطبقة السياسية اشاع في الأيام الاخيرة "وصفة توحيد القوى". ورغم نبل هذه الفكرة فهي تبدو حسب تقديري كسلا ذهنيا وتسرعا في التحليل والاستخلاص .
ظاهرة الانقسام عربيا ، وتونسيا بالضرورة ، تمتد اليوم الى ابعد من الطبقة السياسية . انها وضعية فكرية وقيمية تعيشها شعوب المنطقة التي تم الاشتغال على ضرب كل مشتركاتها الوطنية منذ اكثر من عقد ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان الانقسام والتنافر اليوم اصبح سمة العائلات نفسها البيولوجية او الايديولوجية .
قيم التوجس و اللايقين و التباعد الفكري والاخلاقي وانخفاض منسوب الاحساس بالانتماء المشترك وانفجار الموحد و تفتت المقسم اصبحت اليوم سمة ابناء العائلة الواحدة والعشيرة والقبيلة والشعب واهل الدين الواحد . فلا احد يجمعه مشترك مع اخر .
واذا اقتربنا من المطابخ السياسية وانصتنا الى حديث المجموعات والاحزاب ورفاق الدرب الواحد وجدنا ان الانقسام داخل نفس الفصيل والجبهة والحزب والتنظيم لا يقل عن الانقسام بين المختلفين . ان الدولة نفسها التي نطلق عليها اسم "النظام" اصبحت اليوم في العالم العربي يخترقها الانقسام بين " الاجنحة " و " مراكز القوى " وبصورة مختلفة عن الانقسام التقليدي الذي رافق النظم تاريخيا اذ اصبح اليوم مبرمجا ومتحكما فيه من سياقات عالمية تخطط لمستقبلنا بنجاح .
مقولة الوحدة والتوحيد والاتحاد والالتقاء والتجميع ، بماهي وصفة سحرية في واقع ثقافي واجتماعي وسياسي تحكمه ادوات الاعلام والاتصال ووسائل صناعة الراي والثقافة التي تم برمجتها لتقسيم الموحد ، تصبح مقولة جوفاء .
ما تم برمجته لهذه المنطقة دولا وشعوبا وخلايا اساسية للمجتمع هو مزيد من الانقسام والحرب الاهلية الباردة ووسائل الاعلام والثقافة والتخطيط النفسي والسياسي وبرمجة الوعي والقيم والاذواق ونمط الحياة والاستهلاك والتدين واللغة والجغرافيا ، كلها تتجه وتنجح باطراد في انتاج الاختلاف ...الشعوب والمجتمعات اليوم لا يجمعها مشترك فما بالك بالسياسة والسياسيين .
تقديري ان الامر اعمق مما نتصور . وهذا لا يعني التسليم بالواقع والاستسلام له ولكن لابد من القطع مع التفكير السطحي لنعالج امورنا بشكل جذري واستراتيجي . زمن السياسة السياسوية انتهى . 7 اكتوبر يضع امامنا نماذج النجاح ونماذج الفشل واضحة جلية وقد حان الوقت لنفكر بالعقل خارج صناديق الفعل التقليدي ...وهذا ايضا مستبعد وغير مسموح به لأنه قد تم برمجة عكس ذلك لنا .