يفترض تحليل البيانات السياسية ودلالاتها الوعي بعدد من الجوانب :
أ- الجهة التي اصدرت البيان:
فهل هي رئاسة سلطة التنسيق الامني،ام اللجنة المركزية او المجلس الثوري ..الخ. وهل يعكس البيان ازدواجية في بنية السلطة ،فهل البيان يعبر عن سلطة التنسيق الامني ام عن منظمة التحرير ام عن حركة فتح ام عن جناح في حركة فتح ام انه طلب مباشر من الرئيس فقط؟
ب- لغة ومفردات البيان:
هل لغة البيان الانشائية هي مقارعة الحجة بالحجة ام بيان يخفي نزقا وتصيدا لفرص الانتقام،وبخاصة أن استطلاعات الرأي العام الفلسطيني التي اجرتها جهات فلسطينية او اسرائيلية او غربية قبل طوفان الاقصى وخلاله تتفق على نقطة محددة وهي ان شعبية فتح انتقلت الى ذيل القائمة؟ وتعزز ذلك بأداء المقاومة الذي لفت انتباه كل الخبراء العسكريين في العالم بما فيهم الاسرائيليين، ناهيك عن أحياء المقاومة في الضفة الغربية مما اكد ان قاعدة المقاومة اعمق من قاعدة المساومة،وهو ما جعل لغة بيان فتح اقرب الى لغة زوجة سقراط.
ت- زمن اعلان البيان:
لماذا جاء الاعلان بعد التغيير الحكومي؟او بعد نقد تنظيمات المقاومة للتغيير الحكومي دون التشاور ،او هو استكمال لعشرات التقارير عن نشاط اقليمي ودولي لنزع سلاح غزة من ناحية والسعي لاقامة سلطة تقبل باوسلو وبما يطلق عليه الشرعية الدولية، ام هو استرضاء لنيتنياهو الذي المح بداية ثم صرح في خاتمة المطاف عن عدم رضاه عن اداء السلطة ويريد منها أكثر من ذلك،فأتى البيان لطمأنته ، وهل البيان استمرار للحملات الاعلامية على محور المقاومة واتساق معها.؟
ث- هل البيانات المنفصلة من قيادات فتحاوية يشير الى ان البيان وسع الشقوق في جدران حركة فتح ،فهل بيانات ربحي حلوم وحلمي البلبيسي وزكارنة...الخ تسير في هذا الاتجاه، وهل البيان منفصل عن دلالات التقارير التي تتحدث عن ضغوط نفسية وجسدية يتعرض لها مراون البرغوثي لانتزاع موقف مساوم منه ، وهل البيان يعبر عن كتائب الاقصى التي تشارك في العمليات في غزة والضفة وهي منتج فتحاوي صرف؟لا بد من ربط الامور ببعضها، فالمتسابقون لوراثة السلطة يسعى كل منهم لتقديم أوراق اعتمادة بديلا ، ومن اصدر البيان يريد تعزيز "مؤهلاته" امام القوى الاقليمية والدولية ،فهل الامر كذلك؟
أعتقد ان الاجابة على كل ما سبق يستوجب أمرا رئيسيا وهو كيف تم بناء سلطة التنسيق الفلسطينية القائمة حاليا في رام الله؟ إنني أطالب بنشر واسع لكل ما ورد في كتاب وزيرة الخارجية الامريكية السابقة كونداليزا رايس الصادر عام 2012 تحت عنوان:No Higher Honor :A Memoir of my Years in Washington، ويقع الكتاب في 784 صفحة، ويشرح الكتاب بلغة واضحة لا تورية فيها ،وتنقل الحوار الذي دار بين الرئيس بوش وشارون بحضورها واستنادا لمحاضر الاجتماعات عن كيف تم الاتفاق على خطوات ثلاثة: التخلص من عرفات اولا ،تحديد من يصبح رئيسا بدل عرفات، وتحديد من يكون رئيس وزراء الرئيس الجديد..وتمت الخطوات الثلاثة تماما طبقا لما تم الاتفاق عليه في هذه الاجتماعات وبشكل حرفي ،وتشير الى مشاركة المخابرات المركزية الامريكية في ترتيب كل ما جرى ، وتحديد السياسات المطلوبة من السلطة ما بعد عرفات..وادعو كل من هو مهتم بذلك العودة لكتاب كونداليزا رايس بخاصة الصفحات التالية (77-81)(165-178)(256-259)(340-386)(436-481)(629-706).
ماذا يعني ذلك:
1- من الضروري التمييز بين الخلافات الفكرية بل وانشقاق التيارات في التنظيم الواحد عندما يكون الامر ذاتيا وتطورا طبيعيا في التعامل مع تعقيدات المواقف، وهي ظاهرة عرفتها كل الثورات التاريخية والاحزاب السياسية، وبين خلاف مصنوع من سلطة مصنوعة، فالذين كان لهم الفضل في منح عرفات جائزة نوبل للسلام هم الذين وثقت لنا كونداليزا رايس دورهم في قتله، وقيل لنا حينها من الرئيس الجديد سيتم الاعلان عن نتائج التحقيق وما زلنا ننتظر منذ عشرين عاما ، وهو نفس الفريق الذي أعلن أكثر من 66 مرة عن الغاء التنسيق الأمني ولم يف بواحدة منها.
2- على تنظيمات المقاومة ان تتوقف عن الحوار مع جهة مكلفة من الخارج بمهمة ، ولن تتخلى سلطة التنسيق الامني عن هذه المهمة لأن بقاءها مرهون بأداء ما تم تكليفها به ، وأجد ضرورة لمن يريد الاستفادة من التاريخ ان يدرس تجربة :فيليب بيتان" التي أنشاها النازيون وعرفت باسم حكومة فيشي(1940-1944)، فقد اصبحت تابعة للاحتلال النازي وانشأت اجهزة امنية وقاتلت الى جانب الاحتلال،وربطت اقتصادها بإدارة الاحتلال،ثم الغت الانتخابات وغيرت الدستور واعتقلت المعارضين واصدرت احكام اعدام على قادة المقاومة الفرنسية ومن بينهم ديغول، ولكن الشعب رفض هذه الحكومة وانتهى بيتان وزمرته في السجن بعد ان خفف ديغول حكم الاعدام عليهم. ان بيتان الفلسطيني ليس إلا طرفا أوكل له دور ليؤديه، ولم يعد قادرا على الافلات من هذا الدور ،ولا يجوز ان تدمن حركات المقاومة على اللدغ من نفس الجحر اكثر من مرة..والطريق الى جهنم معبد بالنوايا الحسنة.
3- لا بد من قيام كافة قوى المقاومة من عقد مؤتمر-واقترح ان يكون في صنعاء- تتم فيه دعوة شخصيات فتحاوية من خارج فريق اوسلو ومن كل من جاءوا نتيجة الاجتماعات التي شرحتها كونداليزا رايس، لوضع تصور استراتيجي حول المرحلة القادمة بكل ملابساتها ،اما استمرار الحوار مع " بيتان " ، فهو يعني الوقوع في شركه مما يعني صك غفران لشرعية بيان فتح الاخير.
فمثلما تراهن قوى المقاومة على "جر فتح-فرع اوسلو - للصف الوطني" منذ 1993، فان هذا الفرع وخلفه كل العقل الاستعماري يراهن على صناعة صراعات داخلية فلسطينية ،ونشر روح اليأس، واستعمال المال للإفساد، وقمع كل خلية من خلايا المقاومة ..ولعل معاودة الحوار بين حين وآخر هو دليل على أوهام لدى بعض قادة المقاومة، فنحن امام منهجين وثقافتين وتصورين وسيكولوجيتين واستراتيجيتين بل وتجربتين يختلف كل منهما عن الآخر خلافا حد المطلق..فهل من نقطة وسطى للقاء عندها؟