بداية اود التأكيد على نقطة محددة وهي أنني لست عضوا في أي حزب ديني بل ولم أكن يوما كذلك، هذا لا من باب التفاخر او الخوف بل من باب اقرار الواقع، بل إن لي رأياً في مستقبل هذه الحركات قد لا تستسيغه ، لكني عند التمعن في مواقف الانظمة السياسية العربية وبعض القوى السياسية العربية من الاحزاب السياسية الدينية العربية أسجل الملاحظات التالية:
1- وجود الاحزاب الدينية :
عند تتبعي للأحزاب الدينية غير الاسلامية ، وجدت –في ايامنا هذه- ان هناك أكثر من 160 حزبا في العالم وخاصة في اوروبا وتحديدا في المانيا مركز الثقل الحالي في الاتحاد الاوروبي يحمل اسم " الحزب المسيحي الديمقراطي " او يتبنى مضمون هذا التيار تحت اسماء مختلفة لكنه يعلن في ميثاقه انه يتبنى القيم المسيحية والديمقراطية، فإذا انتقلنا الى الهند (الدولة الثانية في العالم في عدد السكان فان الحزب الحاكم فيها هو حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي المتزمت دينيا، وإذا انتقلنا الى الصين فان الصين-أكبر الدول في العالم سكانيا- وبقرار من الدولة عادت لتنهل من نبع الكونفوشية بل وتتزايد مراكز الكنفوشية في دول العالم بدعم حكومي صيني يخضع لحزب شيوعي ، وإذا طفنا في امريكا اللاتينية سنجد الظاهرة ذاتها، ولو نظرنا الى الكيان الصهيوني، فمن يحكم فيه هي احزاب ذات خلفية دينية مفرطة في هوسها الديني, ولو اتجهنا صوب روسيا سنجد ان منظرها الأول بلا منازع الكسندر دوغين ينادي وبلا كلل او مواربة بالعودة للقيم الأرثدوكسية ويشاركه فلاديمير بوتين هذه القناعة، ذلك يعني ان وجود الاحزاب الدينية هو تعبير عن الإرث الثقافي لهذه المجتمعات، فلا أحد يستطيع ان يلقي بالتاريخ الثقافي من النافذة. وهذا يعني ضرورة النظر الى الاحزاب الدينية انها ظاهرة طبيعية في كل دول العالم ، مما يجعل الاعتراف بحقها في الوجود أمرا لا يجوز التطاول عليه.
2- قد أتفهم موقف العلماني المعترض على الاحزاب الدينية ، واتفهم موقف الاديان المعترضة على العلمانية، او القومي المعترض على العولمة..او الليبرالية...الخ ، إلا ان الواقع يشير الى ان الانظمة العربية بخاصة الملكية منها او المحافظة، لا تتبنى :الليبرالية(بدليل ترتيبها المتخلف في مؤشرات الديمقراطية والحريات وتداول السلطة..الخ) ،ولا تقبل الاشتراكية،ولا هي قومية بالمعنى الفكري للقومية ، ولا تقبل الاحزاب الدينية ، فكيف لانظمة لا تتبنى أية ايديولوجية مما عرفه الفكر البشري قديما وحديثا ان "تعترض " على اية آيديولوجية مهما كانت؟ انها انظمة " الكرسوية السياسية "( political chairology) ، فهي لا تنتمي لأية ايديولوجية دينية أو علمانية او قومية او ليبرالية او اشتراكية او شيوعية او فاشية ... وهذه الانظمة تسمح للأحزاب الصغيرة بالظهور والاعتراف بها، فإذا اتسعت قاعدة هذه الاحزاب توجست الانظمة منها خيفة، وهنا تستشعر الخطر على الكرسي ،فتطل علينا الآيديولوجية " الكرسوية" ، وحيث ان الاحزاب الاسلامية هي ذات القاعدة الأكبر شعبيا ، فإنها تواجه ما تواجهه اليوم.
3- توظيف الاسلاميين من قبل الانظمة:
لو عدنا للتاريخ المعاصر سنجد ان الدول التي تطارد الاسلاميين الآن هي في معظمها الدول التي كانت حليفة لها بالأمس القريب، ففي الفترة الناصرية كان "الكرسويون" هم حلفاء الحركات الاسلامية، وفي مرحلة الاضطرابات بين 2010 الى 2020 تجدد هذا التحالف ، وها هي اهم حركة اسلامية تقاوم الكيان الصهيوني في غزة ولا تجد من حلفائها التقليديين اي مساندة بل ينفث اعلام الحلفاء القدماء سمه ضدهم مستعينا بتراث عربي يفيض بأدبيات المديح والهجاء الكاذب في الحالتين ، وكل ذلك يستوجب من الاسلاميين معرفة قواعد التحالف الاستراتيجي وعدم جعل ممارسة الطقوس هي قاعدة بناء التحالف الاستراتيجي.
4- نقد الحركات الاسلامية:
ان نقد الحركات الاسلامية شيء ، ومنعها من التطور والتواجد شيء آخر، فمن الضروري ان يساهم الفكر السياسي في نقد الحركات الدينية ولكن من منطلق اثراء الفكر لا من منطلق "الاخوة كرامازوف"، ويجب ان تنمي الحركات الاسلامية النقد الذاتي ، وهو امر لا يعيبها بل يجعلها اكثر متانة وادراكا، والبعض يتهم الحركات الإسلامية بأنها " صنيعة" الاستعمار، فإذا كان التاريخ مليئ بالمؤامرات، فان التاريخ نفسه ليس مؤامرة كما قال " هيغل"، فهذه الحركات مهما استغلها او حرفها الآخرون هي تعبير عن وجدان تاريخي مستقر مستدام.
اخيرا، إذا كان من الضروري احترام تراثنا كما تحترم الشعوب كلها تراثها، فان سطوة الماضي يجب ان تنزاح في حدود مساحة يستقر فيها الحاضر ويلوح فيها بيرق المستقبل، أما التغيير من منطلق "الكرسوية" فلن يأتي الا بمزيد من الخراب مهما تدثر اصحابه بالعقلانية الموهومة.