تقول الرواية أن أبي عبد الله محمد بن علي - الصغير el chico - بعد أن سلم مفاتيح غرناطة لإيزابيلا وفرناندو توجه إلى جبال سييرا نيفادا وتوقف ليلقي نظرةً وداعيةً على غرناطة ويزفر زفرته الأخيرة المملوءة حسرةً وألماً، لتعرف هذه النقطة - حتى اليوم - بممر زفرة العربي الأخيرة Puerto del Suspiro del Moro.
حدث هذا بعد أن هُزم العرب في آخر معاقلهم بالأندلس، بعد عقود، بل قرون، قضوها في التناحر فيما بينهم وإعانة الأوروبيين المسيحيين على بني جلدتهم. ما لم يره الغرناطيون - ربما - هو أن وقوفهم موقف المتفرج، بل والمعين، في حصار اشبيلية العام ١٢٤٧-١٢٤٨ ما كان ليمنع عنهم ذات المصير بعد ٢٤٤ عام، تماماً كما حدث مع الإشبيليين - وغيرهم - الذين سقطت قرطبة أمام أعينهم في ١٢٣٦ ولم يحركوا ساكناً.
ما لم يدركه هؤلاء هو أن مقاومة أحدهم كانت تمنع عنهم سوء المصير والفناء، بل إن ما يعطيهم "قيمة" كمهادنين ومتعاونين مع العدو هو وجود المقاومة التي بسقوطها تنتهي تلك "القيمة" ويتحولون بدورهم إلى أهداف للاحتلال والنهب والتهجير والإبادة. حدث ذات الأمر مع القبائل الهندية (الأصليين) الذين نصروا المستعمرين البيض على أبناء جلدتهم فكانوا - بعد هزيمة إخوتهم - عرضة لنفس الإبادة. تكرر الأمر في القفقاس حيث هادنت بعض عشائر الشركس الروس أملاً في اتقاء شرهم، فما أن تمكن الروس من هزيمة باقي العشائر تفرغت لهم فأبادت جزءاً منهم وهجّرت من تبقى إلى السلطنة العثمانية.
واليوم، فإن غــزة بمقاومتها - وكذلك الضفة واليمن ولبنان والعراق وسورية - إنما تمنع سوء المنقلب عن كل العرب، وجود هذه المقاومة المباركة يمنع تقسيم بلداننا - المقسمة أصلاً - ونهبها - وهي المنهوبة أصلاً - ويمنع تهجيرنا - فيما هُجّر ملايين العرب فعلاً في العقود السابقة، غـ ـزة بروحها الفدائية وجنوب لبنان بحميّته واليمن بإبائه والعراق بغيرته وسورية بعنفوانها يمنعون عنا جميعاً مصيراً أسوداً حالكاً، إن المقاومة العربية تمنع عن كل العرب - مهادنهم ومقاومهم، غنيهم وفقيرهم - مصير أبي عبدالله محمد بن علي، إنها تمنع من أن يتحول وجودنا في وطننا إلى زفرةٍ أخيرة كزفرة ذلك الغرناطي الصغير.
عيدكم جميعاً بالمقاومة مبارك وأيامكم بصمودها سعيدة، وعيدنا الحقيقي هو النصر إن شاء الله.
أجدد العهد لرفعة رأسي اليمانيين
الـــيــمــــن : أي كلامٍ يليق بمقامك ؟!
عندما بدأ العدوان على اليمن كان موقفي محسوماً، في الحقيقة كان محسوماً قبل بدء العدوان بكثير لما يمثله اليمن وأهله لي، كإنسان وكعربي وكجزيري. لم انتصر لليمنيين لأنهم "فقراء" ولا لأنهم "غلابة ومساكين" و"لا حول لهم ولا قوة".
لم انتصر لليمن لأن المعتدي هو رأس الرجعية العربية، إذ لم تكن نصرتي لليمنيين نكاية بعدو الأمة التقليدي. لقد انتصرت لليمانيين لقناعة تامة في نفسي بأنهم خيرتنا وبأنهم البقية الباقية لله في أرضه، لأنهم يمثلون بأبهى الصور كل القيم التي يفتقر البشر لها، يمثلونها صافية من كل شائبة، وكأنها في صورتها المطلقة، الطيبة والسماحة والصدق والأمانة، الشرف والأخلاق والأدب وصفاء النية وعزة النفس، الشجاعة المطلقة وشدة البأس والإقدام والصلابة وإباء الضيم، التضحية والإيثار والشعور بالمسؤولية، الحكمة والبصيرة والإيمان الصادق، التواضع والبساطة والتسامح واحترام الناس، الإبداع وعذوبة الروح، أما الأصالة فلهم دونما منازع. انتصاري لليمانيين كان لقناعة عندي بأن كل خير فينا هو إرث حملناه معنا مُذ تركنا اليمن واتجهنا شمالاً، خيرٌ بقي في نفوسنا كشاهد يذكرنا بانتمائنا لتلك الأرض الطيبة.
انتصاري لليمانيين سبقه شغف وحب قديم منذ الطفولة، شغف وحب أجهل، للأمانة، مصدره وسببه ودوافعه، حب "لله في لله" كما نقول بالعامية، حبٌ جعلني أشعر بألم كل ضربة توجه لهم وبفرحة كل ضربة يوجهونها للعدو، وكأنني بينهم.
يصعب علي وصف ما يمثله اليمن وأهله لي، بل يستحيل علي ذلك لأن مكانتهم عندي ولدت من مزيج من التاريخ والسياسة والثقافة والدين والفن والميتافيزيقا، لئن استرسلت في وصف اليمن وأهله سيظن القارئ بأنني مصاب بنوع من الجنون، من الفصام النفسي الحاد !!
انتصاري لليمن وتأييدي له كان شرفاً لي، لقد كان انتصاراً للخير المتبقي في داخلي، للخير الذي أصبح شبه معدوم في دنيا اليوم، لقد انتصرت لمن أراهم المخلّص الذي طال انتظاره!!
لليمن ولليمانيين مني سلامٌ بعدد ما أشرقت الشمس وأغربت، سلامٌ متصل ما بقي الليل والنهار.