الهجوم الايراني: محاولة للتقييم
لا بد من التوقف عند بعض الملاحظات..
أولا: انعدام المفاجأة.
يمكن القول ان الهجوم الايراني لم يشكل مفاجأة لأحد، إذا ان المستويات السياسية الايرانية من المرشد الاعلى الى الرئيس الى قيادات الجيش والحرس الثوري أكدوا على "ان الرد قادم بالتأكيد وفي وقت ليس ببعيد"، وكان الموقف الاسرائيلي في توجهه العام يصدق ذلك، كما ان الامريكيين تعاملوا مع الامر على انه امر حتمي. ولعل المبرر للهجوم الايراني (قصف بعثة دبلوماسية لدولة معينة) كان محرجا للولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي في الدفاع عنه ناهيك عن الدول الاخرى، اي ان الفعل الاسرائيلي المتهور "اضفى قدرا من التبرير" للهجوم، وهو امر زاد من جرعة التصميم الايراني على الرد، لانه فعل فاضح لجوهر القانون الدولي في فرعه الدبلوماسي.
من ناحية أخرى، فان طبيعة الهجوم يجعل المفاجأة معدومة بتأثير المتغير الجيوسياسي، فالتحضير للهجوم والفترة الزمنية التي تستغرقها المسيرات والصواريخ للوصول لأهدافها كافية لاتخاذ اجراءات سريعة للتصدي بقدر معقول، فاقصر مسافة بين ايران وفلسطين المحتلة هي 1728 كيلومتر.
ثانيا: الآثار المادية والمعنوية.
حتى هذه اللحظة (وقد تظهر بعض الآثار في الايام او الساعات القادمة) لم يعلن اي من الطرفين عن عدد الاهداف التي تعرضت للضرب، ولا عدد الصواريخ والمسيرات التي تم اسقاطها، ولا حجم الخسائر البشرية او المادية، واقتصر الايرانيون على التركيز على القاعدة الاسرائيلية التي تقول ايران انها كانت منطلق القصف للقنصلية في دمشق، وأنها اصيبت اصابة مباشرة. ويقول رئيس الاركان الاسرائيلي ان الايرانيين اطلقوا 330 صاروخ ومسيرة وانهم - اي القوات الاسرائيلية - اسقطوا "99%" منها، اي وكأنه يدعي ان ما وصل لفلسطين المحتلة هو 3 صواريخ او مسيرات فقط، وهي نسبة لم تصلها اسرائيل حتى في مواجهة صواريخ ومسيرات المقاومة في غزة، مع الفارق في مستوى التطور التكنولوجي لصالح الاسلحة الايرانية. وبالتالي يمكن تقييم الاثار المادية المعلنة والتي تتمثل في الشلل في بعض القطاعات، الى جانب الحالة النفسية والاضطراب في المجتمع الاسرائيلي. لكن من المتعذر – حتى هذه اللحظة - تقييم الاثر العسكري.
ثالثا: التوظيف السياسي للحدث.
شكل الرد الايراني – بغض النظر عن تقييم آثاره - تحذيرا لإسرائيل بأن التهديد يمكن ان يتحول لتنفيذ فعلي، وليس كما كان الامر سابقا. والملاحظ ان الفعل الايراني تحاشى تماما الاهداف المدنية، وكأنه اقرب للقول باننا نرد ولدينا القدرة على الرد بغض النظر عن النتائج، ونبتعد عن الاهداف المدنية خلافا لإسرائيل التي تجعل الأهداف المدنية هي المفضلة،وهو ما يتجلى تماما في غزة وفي ضرب بعثة دبلوماسية مدنية. ونعتقد ايضا أن الفعل الايراني زاد من الضغوط الدولية (مع ارتفاع اسعار النفط، واضطراب التجارة الدولية، واقحام العالم في مشاكل جديدة، وارتفاع تكاليف الشحن البحري والتامين عليه، الى جانب التوترات في الشارع السياسي عالميا، والتأثير على بعض الانتخابات القادمة في عدد من الدول ..الخ) لإعادة طرح فكرة لماذا كل هذا؟.. ولا شك ان الجواب العالمي هو أن جذور الامر تنتهي في تراب غزة، وهو ما سيتم توظيفه لضرورة التوجه نحو السبب لا نحو النتيجة، وهو ما يعني مزيدا من الضغط على اسرائيل للعمل على اعادة الهدوء الى قطاع غزة، ولأن التوسع نحو الاقليم تزداد اشاراته بعد الهجوم الايراني؛ فقد بدأ الأمر بالطوفان، ثم التحق به محور المقاومة بشكل متتابع، وها هو مركز المحور ينخرط مباشرة.. أمرٌ يستدعي لجمه من منظور غربي وصيني وروسي وبعض العربي (لان هناك دول عربية أكثر توقا من اسرائيل لتوريط الولايات المتحدة وايران في مواجهة مباشرة)، وكل ذلك يعني مزيد من دعم جهود وقف اطلاق النار في غزة، وهو هدف يعزز من قيمة الفعل الايراني.
رابعا: المعالجة الاعلامية العربية للمواجهة.
لا ارى جدوى من مناقشة الاعلام الرسمي العربي (فهو يعكس مواقف دوله)، لكن الاعلام الوكيل هو الذي يربك المتلقي العربي، فعند النظر لقناة الميادين نجدها مشغولة بتضخيم مباشر للحدث، بينما لا تتورع قناة العربية عن محاولة اثبات ان نتائج الهجوم الايراني هي "لصالح اسرائيل".. الى حد القول على لسان احد مذيعيها ان الهجوم الايراني يساهم في اعادة صورة اسرائيل التي تشوهت في غزة الى ألقها السابق- الدولة الضحية. اما الجزيرة فان المتلقي بحاجة ليقظة اعمق ليكتشف السعي الذكي لتحجيم "الاداء الايراني او محور المقاومة" من خلال خطاب اعلامي مصاغ بكيفية تستشعر وظيفته بشكل غير مباشر .
كل ذلك يطرح السؤال الجوهري: هل التقييم العام للهجوم الايراني له أثر ايجابي على الشروع في اخراج غزة من محنتها؟
نعم انا ارى ذلك، لكن دون مبالغة فجة، كما أن الامر سيستغرق بعض الوقت في ظل مماحكات التفاوض مع اسرائيل.
لكن المؤكد ان الضغط للتسوية في غزة هي البديل الاقل ثمنا للجميع من الانجرار خلف "اوهام نيتنياهو". ولعل اعلان إيران على لسان قادتها العسكريين عن "انتهاء العملية العسكرية" دليل على رغبة ضمنية لفتح الباب ثانية أمام التفاوض للجم التصاعد في الإقليم وبالتالي في غزة.