بداية لا بد من توضيح بعض الحقائق المتعلقة باستراتيجية الأمن في كل دولة. مع ملاحظة أن هذا الموضوع متعدد الأبعاد والمستويات ، ويستند إلى نظريات عديدة ، بوسع من يحتاج إلى "ثقافة أمنية" أن يراجعها في الكتب ، والابحاث المتخصصة . لكن يمكن تقديم اضاءات قد تساعد القارئ في معرفة بعض المحددات المهمة .
اولا : صياغة الاستراتيجية الأمنية لكل دولة هي واجب ومسؤولية نظامها السياسي ، وهي من القضايا التي يقاس عبرها مدى سيادة واستقلال هذا النظام ، من تبعيته . لذلك لا تسمح الأنظمة المستقلة ذات السيادة لطرف خارجي في الاشتراك بصياغتها .
الركيزة الأولى في صياغة الاستراتيجية الأمنية هي تحديد من هم أعداء أمن الدولة ، سواء كانوا داخليين ام خارجيين . وعملية تحديد من هو العدو يفترض أن تنبني على معطيات واضحة ، ومنطقية ، ومقنعة للشعب .
ذلك أن أمن الدولة ، أي دولة ، يبنى في الأساس على شعبها ، قبل وبعد ، كل جهاتها الأمنية ، أو العسكرية . ولذلك قناعة الشعب بأن من تراهم السلطة أعداءها هم أعداؤه ايضا، مسألة مهمة جدا في تحقيق الاستراتيجية الأمنية ، ومن يذهب إلى معركة أو صراع دون شعبه ، فهو ذاهب الى الهزيمة حتما .
الركيزة الثانية : هي تحديد من هم اصدقاء أو حلفاء هذه الدولة في تحقيق استراتيجيته الأمنية . وهؤلاء بدورهم ينبغي أن يكونوا مقنعين للشعب .
إذ لا ينفع ، في الأردن مثلا ، أن تقول إن عدو أمن الدولة الأردنية هي المكسيك ؟ لأن هؤلاء مشكلة لأمريكا لا لنا ! ، كما لا ينفع أن تقول إن اصدقاء الأمن الأردني هم الاحتلال الصهيوني !؟ ، لأن الشعب لن يقتنع بذلك ، ولن يرى في العدو صديقا !.
في الأردن وحتى عام 1994كان العدو هو الاحتلال الاوروبي ذو الصبغة اليهودية لفلسطين. وكان هذا محل إجماع من قبل الشعب الاردني ، لكن وبعد توقيع (الأردن الرسمي) لوادي عربة ، أصبح العدو صديقا ، وباتت العلاقة به مفتوحة على كل صعيد ! .
والمفارقة هنا أنك لن تعثر على تصريح واحد لمسؤول اردني يقول لنا فيه : من هم الذين أصبحوا أعداء لأمن الأردن ، طالما لم يعد الاحتلال هو العدو ! .
وبسبب هذا (الغموض الهدام) بات الشعب الاردني في حيرة من أمره ، خصوصا عندما يرى سياسات الدولة ، وخيارات النظام ، لا منسجمة ، ولا منطقية ، ولا مقبولة !
لقد أدت سياسة (الغموض الهدام) التي اتبعها الأردن الرسمي حول استراتيجيته الأمنية إلى حالة من عدم الثقة ، والارتياب لدى الشارع الأردني ، فمنذ وادي عربة حتى اليوم شهد (الأمن الاقتصادي) تراجعا شاملا ، تضخم غير محدود للمديونية، فشل متراكم لخطط الإصلاح ، تراجع الخدمات الأساسية ، مصحوبا بارتفاع لمعدلات البطالة ، تضخم في ثروات الأثرياء ، مع تصاعد لمعدلات الفقر ، استشراء الفساد ! ، تراجع للحريات،موت غير معلن للأحزاب.
كل ذلك يحدث بينما يرى الأردن مفهوما يرتحل بلا توقف للأمن من منظور السلطة ، وأجهزتها ! .
إذ كيف يعقل أن يعلم القاصي ولا يعلم الداني أن الأردن يشترك في إسقاط النظام في ليبيا ؟ .. وما علاقة ذلك بأمنه وأمانه؟ ، ثم كيف ولماذا يشترك في هذه المعركة حتى إسقاط نظامها ، لكن ليبيا تحتفي من اهتمامه بعد ذلك ، وما الذي استفاده الأردن من الانخراط في معركة كهذه ؟! ، ولماذا سيقتنع الشعب إذن أن الاشتراك في هذه المعركة كان جزءا من استراتيجيته الأمنية!
والغريب أن هذه السياسة عادت لتتكرر في سورية ! .. إذ فجأة يستفيق الشعب على انخراط الأردن في الحرب عليها ! متخذا من تلك (الانسانوية المفتعلة) ذريعة لغرفة عمليات تدير القتلة ، والتكفيريين داخل تلك الدولة ! .. كما أنه من قبل اشترك في جهود الأمريكيين لاحتلال العراق! . دون أن يخطوا خطوة واحدة لبناء علاقة مع نظامه الجديد طيلة عشرين عاما! .
أما المفاجأة الأكثر غرابة ، فكانت باشتراكه في الحرب على اليمن !. ومتى كان الشعب اليمني يشكل تهديدا للأمن الأردني ، كي نرسل طيارينا لقصفه، ولا نعلم الا بعد إسقاط إحدى الطائرات! .
من هم الأعداء إذن في الاستراتيجية الأمنية بعد (السلام مع أبناء ابراهيم) ؟ .
أما الصفحة الأخيرة من صفحات هذه الكارثة فهي استفاقة الشعب الاردني على عدد غير محدود من القواعد الأمريكية ، ثم يعلم فقط ليلة رأس السنة أنه توجد قاعدة فرنسية، لأن ماكرون احتفل مع جنوده ! ..
هل كلف أحد نفسه كي يشرح للشعب الاردني ، ما الهدف من وجود كل هذه القواعد ؟ ، ومن هم الأعداء في نظر من بنوها في الأردن ؟ ، ومن أجل حماية من بالضبط؟! . وما علاقتها بالأمن الاردني ؟ .. ولماذا تحتاج الأردن إليها؟ .. واذا كان هناك تهديد بالفعل للأمن الأردني فما الذي ينقص الجيش وأجهزة الأمن كي تقوم بالمهمة!