الحديث هنا عن آثار وأهميّة الضربة الإيرانيّة التي أصابت إسرائيل، والتشكيك بالأرقام الإسرائيليّة والأميركيّة ضروري لأنّ هناك تاريخاً من الأكاذيب والأضاليل من قبل الحكومتَين. في حرب فييتنام، أثبتت دراسة «أوراق البنتاغون» (التي سرّبها دانيل إلزبرغ) أن الحكومة الأميركيّة واظبت على إخفاء الحقائق عن الشعب الأميركي وأنها كانت تقول في السرّ إن النصرَ على فييتنام مستحيل، فيما كانت تعِد الشعب الأميركي بالنصر المحتوم، وكانت تعلن أرقام خسائر غير ما كانت تحتفظ به للمداولات السرّية. وإذا كانت أميركا مستعدّة لأن تكذب عن حربها، فما بالك بالنسبة إلى حليفتها إسرائيل التي هي أغلى من القلب؟
أميركا عندما تعرّضت لهزيمة شنعاء في لبنان في ١٩٨٢ - ٨٤ أنكرت أنها انسحبت جارّةً أذيال الخيبة، وظهر رونالد ريغان أمام الملأ كي يعلن أنه لم ينسحب أبداً من لبنان، بل إنه أمرَ فقط بإعادة انتشار للقوّات الأميركيّة. قد يقول قائل إن أميركا باتت أصدَق في بياناتها العسكريّة وإن عصر الإنترنت والمواقع فرض تعاطياً شفافاً. هذا ما دحضه إدوار سنودن الذي كشف حجم أكاذيب هائلاً. ثم لنعد إلى أرقام الخسائر العسكريّة من الماضي غير السحيق.
بعد اغتيال قاسم سليماني في ٢٠٢٠، قال دونالد ترامب إنه لم يُجرَح أيّ عنصر من القوات المسلّحة الأميركيّة في القصف الإيراني على قاعدة عسكريّة في العراق. لكنّ مسؤولين أميركيّين اعترفوا بعد ذلك بأنه تمَّ إجلاء ثمانية عناصر بعد إصابتهم بجروح. وبالتدريج، وحسب الأرقام الرسميّة عينها، ارتفع عدد المصابين من القوّات الأميركيّة من ٣٤ إلى ٥٠ ثم إلى ٦٤. وفي ١٠ شباط، ٢٠٢٠ اعترفت وزارة الدفاع الأميركيّة بـ ١٠٩ مُصابين في التفجير عينه. أي أن التشكيك في ما تعلنه إسرائيل، التي افتضح استسهالها للكذب في هذه الحرب أكثر من أيّ وقت مضى، واجب في المعاينة والتدقيق والمتابعة لمجريات هذه الحرب ومضاعفاتها. وينسى القرّاء العرب، أو قد ينسون، أنه ليس هناك من تغطية غربيّة مستقلّة لهذه الحرب.
الإعلام الغربي يعتمد بالكامل على بيانات المسؤولين السياسيّين والعسكريّين الإسرائيليّين وعلى إعلاناتهم وتصريحاتهم. هذا يتناقض تماماً مع مسار تغطية الحرب في أوكرانيا. هناك مثلاً: ترى وسائل الإعلام الغربيّة أن كلّ ما يصدر عن روسيا هو كاذب، وأن الخبر اليقين في حوزة المسؤولين الأوكرانيّين فقط، ومؤيّديهم في وزارات دفاع دول حلف شمال الأطلسي. لو أن هناك من يجمع المزاعم الأوكرانية والغربيّة عن خسائر الجيش الروسي وهزائمه لما كان هناك اليوم اعتراف متأخّر في الإعلام نفسه بأنّ أوكرانيا تُردّ على أعقابها من قبل الجيش الروسي الذي يتقدّم في الميدان. وما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي أخيراً عن نجاح إسرائيل في قتل نصف قادة المقاومة في الجنوب تعرّض للتشكيك في جريدة «نيويورك تايمز» نفسها (لو احتسبنا عدد «القادة» من «القاعدة» و«داعش» الذين زعمت أميركا أنها قتلتهم في العراق وسوريا لبلغ الآلاف).
ثالثاً، هناك الأهميّة التاريخيّة. إسرائيل اعتمدت على التفوّق الجوي مبكّراً، ولم تكن الطائرات الروسيّة (أو النسق الذي كان الاتحاد السوفياتي يمدّ العرب به) موازية للطائرات الأميركيّة التي كانت أميركا تزوِّد إسرائيل بها. هناك ثلاث دوائر من أنظمة الدفاع المُضادّ للصواريخ، وكلّها تلقى تمويلاً ودعماً من الحكومة الأميركيّة. إسرائيل كانت ترصد طائرات شراعية من غزة، وهي كانت تمنع أي تسلّل مدني إلى فلسطين المحتلّة منذ ١٩٤٨.
إيران أرادت (من دون تفجيرات كبيرة) إفهام إسرائيل بأن نظامها الدفاعي الجوّي ليس عصيّاً عليها وأنها تستطيع اختراقه. لو أن إيران بالفعل اخترقت فقط بثمانية صواريخ، ولو كانت محمّلة بكل الطاقة التفجيرية، لكان التدمير هائلاً. وعندما عبّر بن غفير عن خيبته من الردّ الإسرائيلي على الردّ الإيراني المشروع على قصف قنصليّتها (وصفه بـ«المسخرة»)، كان يعبّر عن حاجة عسكريّة - سياسيّة عند إسرائيل للردّ على المهانة التي شكّلتها هذه الصواريخ والمسيّرات.
٣٤ صاروخ سكود صدّامياً (وبقدرات توجيهية بدائيّة وحمولة تفجيريّة خفيفة) ألهبت مشاعر الأمّة يومها، لكنّ هذه الصليات البعيدة المدى كانت، بحسب الإعلام الصهيوني الناطق بالعربيّة، رمزيّة. تعرّضت حملة القصف للسخرية من حملة مصالح ومشاعر إسرائيل بيننا (قالوا إن القصف الإيراني حوّل الأنظار عن غزة، فيما غزة لا تزال تغطّي الشاشات والمواقع). إيران في إصابتها لقاعدتَين عسكريّتَين أفهمت إسرائيل أن البعد الجغرافي لم يعد عائقاً في التوجيه الدقيق نتيجة التقدّم العلمي العسكري في طهران. هي رسالة، لكنها رسالة بالغة الخطورة لعدوّها.
تسلّح إسرائيل من قبل الغرب كان لهدفَين: شنّ الحروب واحتلال الأرض وتخويف العرب ومنعهم عن مجرّد التفكير في إيذاء إسرائيل أو من تخطّي عوائق وخرق المحظور في الصراع معها. الترسانة العسكريّة الإسرائيليّة غير مبرّرة إلا من هذا المنظور. تجميع كل هذه الطائرات المقاتلة هو من أجل ذلك: تكديس ترسانة مخيفة. ليس هناك من سلاح جوّي في الدول المجاورة كي تستمر إسرائيل في تجميع الطائرات المقاتلة بهذا الحجم.
ساهم الحزب، أكثر من غيره، في إزالة عنصر الخوف من نفوس المقاتلين العرب ضد إسرائيل. قد تكون هذه أولى علامات تآكل عقيدة الردع الصهيونيّة. لم نكن نحلم، نحن الجيل الذي عاصر حرب ١٩٦٧، أن نصل إلى يوم يخاف فيه الجندي الإسرائيلي من المقاتل العربي وليس العكس. إيران، بضربتها، أدخلت عنصراً جديداً: أنها دولة شرق أوسطيّة لا تخاف إسرائيل. حاولت إسرائيل إخافتها بشتّى الطرق من خلال عمليات تخريب وإرهاب متنوّعة، ومن خلال استخدام نفوذها الهائل في الغرب أن تحاصر وتخنق الشعب الإيراني كي يثور على حكومته.
هذه هي النيّة الصريحة التي تحكم عمليّة فرض العقوبات الأميركيّة، من كوبا إلى إيران. وإيران جازفت، ولا تزال، بحياة النظام من خلال المخاطرة الكبرى في دعم السلاح العربي ضد إسرائيل، فيما لم تعد تجرؤ حكومة عربيّة واحدة (ولا الجزائر) على تسليح المقاومات (باستثناء النظام السوري — واليمني لو كان لديه ما يوفِّره من السلاح). وكانت السياسة الأميركية العسكرية في دعم إسرائيل تعتمد على ضمان قدرة إسرائيل على هزيمة، ليس دولة عربية واحدة، وإنما أيّ مجموعة من الدول العربية. لم تكن تلك السياسة تأخذ في الحسبان أن هناك إمكانية لبروز فصائل مقاومة عسكرية تلحق الأذى بإسرائيل، كما حدث مع «حماس» وحزب الله.
كانت إسرائيل تتعامل مع خطر التنظيمات الجديدة باستخفاف، بناءً على تقييمها للأداء السابق لفصائل منظمة التحرير. تغيّر ذلك بعد 2000، وبعد 2006، وحرب تموز. الضربة الإيرانية أدخلت عنصراً جديداً، في أن دولة محاصرة تستطيع أن تجرؤ على قصف إسرائيل مباشرة وبعدد كبير من الصواريخ والمسيّرات. وبالرغم من الدعاية المضادّة، ومن التحريض اليومي من وسائل إعلام الخليج التطبيعيّة، فإن الحكومة الإيرانية منذ الثمانينيات دخلت في صلب الصراع مع إسرائيل، وكانت هي تمدّ ياسر عرفات وحركته (في أشهره الأخيرة) بالسلاح، وهذا ساهم في إقناع إسرائيل لأميركا بضرورة التخلّص منه. وإيران لم تكن تستطيع أن تدخل في صلب الصراع إلى جانب الحق الفلسطيني لو أن الدول العربية لم تخرج منه. صحيح أن هناك رصيداً شعبياً وإسلاميّاً تكسبه الدولة التي تدعم الحق الفلسطيني بقوة، لكن الثمن لذلك الدخول في الصراع باهظ وهو الذي دفع الدول العربية بعيداً في الترحال عن فلسطين.
رابعاً، أعلنت إيران رسمياً نهاية عهد الصبر الاستراتيجي. لا يمكن موازاة مفهوم الصبر الاستراتيجي مع مفهوم التوازن الاستراتيجي الذي اتّبعه حافظ الأسد في الصراع مع إسرائيل، أو مفهوم الانتظار حتى تحديد زمان المعركة ومكانها. مفهوم الصبر الاستراتيجي لم يعنِِ عند إيران تجميد الصراع ضدّ إسرائيل، بل تسعيره في آن عبر الانخراط المباشر في تسليح ودعم وتمويل حركات المقاومة في كل الجبهات وحتى لو كانت الفصائل التي تتلقى الدعم الإيراني لا تعتنق العقيدة الدينية أو المذهبية أو الأيديولوجية للنظام في إيران. الصبر الاستراتيجي لم يعنِ يوماً الانتظار حتى تحديد زمان المعركة لأن المعركة لم تتوقّف يوماً، بالنسبة إلى النظام الإيراني.
كانت إيران تتلقّى الضربات باستمرار عبر أدوات «الموساد» مثل «مجاهدي خلق» وحركات انفصالية في داخل إيران وعمليات اغتيال سياسي وضربات قاضية ضدّ أهداف إيرانية وضدّ حلفاء إيران في سوريا. لكن في الوقت نفسه، الذي تكون فيه إيران منخرطة في الصراع ضدّ إسرائيل عبر جبهات متعددة، تنتظر إيران اختمار قدراتها العسكريّة الاستراتيجيّة التي قد تتطوّر باتجاه نووي لو قرّر المُرشد ذلك. والذين يقولون في الإعلام السعودي إن إيران تحارب إسرائيل بأرواح عربية لم يجروا إحصاءً بعدد الخسائر البشرية لإيران عبر السنوات بسبب مقاومتها ضد إسرائيل وتسليحها ضد إسرائيل. التسليح الإيراني منذ البدء كان موجّهاً ضد إسرائيل، بينما يكون التسليح الخليجي منذ البدء موجّهاً ضد الجيران العرب وغير العرب باستثناء إسرائيل نفسها (السعوديّة أكبر مستورد للسلاح في الشرق الأوسط وإسرائيل هي الثانية، والتسليح السعودي لا يرتبط بمعركة ما ضد إسرائيل لتحرير فلسطين).
خامساً، إيران توجّهت برسالة إلى الغرب مفادها: أنها قد أعدّت العدّة لمعركة كبرى وأن التخطيط أخذ في الحسبان هذا التراصّ الغربي في دعم إسرائيل، التي كشفت الضربة ضعفها. لم نكن نتوقّع بعد ٧ أكتوبر أن تكون إسرائيل، بعد كل هذه العقود من الهبات والسلاح الغربي، عاجزة عن الدفاع عن نفسها بنفسها. ومخطط إيران يتهيّأ لمواجهة كبرى لا تريدها أميركا، ولا تريدها إيران. وكان يمكن لقوى المقاومة أن تفتح المعركة الكبرى في هذه المرحلة، لكن ذلك لم يكن وفق حسابات المحور، بل تكون المعركة انفعاليّة وردّة فعل (وخصوصاً أن «حماس» لم تنسّق مسبّقاً مع المحور في شأن ضربتها).
لم تنتهِ المعركة بين إيران وإسرائيل، لكنها تطوّرت. غريب أن يكون ألدّ أعداء إسرائيل دولة غير عربيّة تنتمي إلى حضارة لطالما عيّرها العرب بالعنصريّة ضدهم. وحدة الساحات بين عناصر محور المقاومة كشفت أن الغرب لديه وحدة ساحات أيضاً، لكن ذلك أثّر وسيؤثّر على صورة الغرب في العالم. ومشهد ساحات الجامعات الأميركيّة لا يشير إلى أن التناصر الغربي مع إسرائيل سيعمّ على الغرب بالفائدة الجمّة.