بالرغم من أن أزمة المهاجرين غير النظاميين من دول جنوب الصحراء خفتت في الأشهر القليلة الماضية، فإنها عادت مجددا لتصدر مخاوف التونسيين في الأيام الأخيرة. ولا يعود خفوت الأزمة في الأشهر الماضية لحلول ما وجدتها السلطة وواجهت بها الأزمة. كان كل ما فعلته سلطة قيس سعيد أنها نقلت مئات المهاجرين الذين كان قد استوطنوا مدينة صفاقس إلى قرى في محيطها، حيث ألقت بهم في أراض زراعية ومنعتهم من مغادرتها في سلوك ذكر بالمحتشدات التي تغيب عن المقيمين قسرا فيها أدنى الخدمات. بضعة أشهر كانت كافية لتنطلق في صفوف سكان منطقة "العامرة" التابعة لولاية صفاقس احتجاجات شبيهة بتلك التي نظمها أهالي مدينة صفاقس نفسها قبل أشهر. هذه الاحتجاجات الجديدة واجهتها السلطة بنفس الطريقة: نقل المهاجرين إلى مناطق الشمال، في ولاية باجة، وإطلاق سراحهم في الطبيعة.
وفي انتظار أن يحتج أهالي مجاز الباب من ولاية باجة، وأن تقوم السلطة مجددا بنقل المهاجرين إلى حقول أخرى في ولايات أخرى، تتخبط حكومة قيس سعيد في ورطتها ولا تجد منها أي مخرج. بالموازاة مع هذه الحقيقة، تتزايد الدعوات العنصرية حدة، ووصل الأمر بنائب في برلمان الرئيس ينتمي لحركة الشعب الناصرية إلى الدعوة لتشكيل كتائب شعبية لمعاضدة القوات الأمنية والعسكرية في مواجهة "الخطر الذي يمثله الأفارقة". على الشبكات الاجتماعية ينشط أنصار الرئيس في بث خطاب كراهية وعنف غير مسبوق، مع دعوات للتخلص من المهاجرين باستعمال القوة. وبالرغم من الخطر الذي تمثله هذه الدعوات على الأمن العام، وبالرغم أيضا من أن السلطة تعتقل منذ أكثر من عام معارضين عبروا بصورة سلمية عن آرائهم ولكن وقع اتهامهم بتهديد الأمن العام، فإن السلطات لم تتحرك تجاه هذه الدعوات لحد الآن، مما قد يشير إلى أنها راضية عنها، أو مستفيدة منها.
هناك وجهان للأزمة الحالية في تونس، الأول هو وجود مهاجرين غير نظاميين بالآلاف تقطعت بهم السبل حيث يعجزون عن اجتياز المتوسط نحو ضفته الشمالية، ولا يرغبون في العودة إلى البلدان التي جاؤوا منها. أما الثاني فهي طريقة تعامل السلطات معهم، ما جعل الأزمة تنتقل إليها ثم تتضخم إلى أن أصبحت ورطة عظيمة. وهي تواجه أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة ظهرت في ندرة المواد الأساسية، تحتاج سلطة قيس سعيد إلى صرف النظر عن هزال نتائج ثلاث سنوات من السلطة المطلقة في حل الإشكالات الحياتية للتونسيين، وقد تم ذلك باستمرار عن طريقة إثارة الغرائز وتوجيه الكراهية نحو فئات بعينها، من بينها الأقليات المهاجرة وقتيا إلى تونس في انتظار انتقالها نحو أوروبا. مثل كل سلطة وفية لقناعاتها الشعبوية تحتاج سلطة قيس سعيد إلى إشغال الرأي العام بمعارك تستفيق فيها كل النعرات السلبية، في ظل دعايات التخوف من "تغيير التركيبة الديمغرافية للبلاد" التي تبناها الرئيس نفسه في خطب رسمية.
لكن نفس الأزمة الاقتصادية والمالية قد جعلت من البلاد رهينة لطرفين خارجيين: الجزائر وإيطاليا. وفي حين تسهل الجزائر حصول تونس على بعض القروض بالإضافة إلى تغطية بعض الاحتياجات العاجلة، فإن إيطاليا أعربت عن استعدادها لمرافقة قيس سعيد عبر بعض الهبات والقروض، وتسهيل تلبية الاتحاد الأوروبي لعدد من الاحتياجات المالية في مقابل مكاسب سياسية في موضوع الهجرة غير النظامية. ومن سوء الحظ، فإن الدولتان مرتبطتان جدا بأزمة الهجرة غير النظامية التي تعيشها تونس. يأتي معظم هؤلاء المهاجرين عبر الحدود مع الجزائر، حيث لا يبدو أن الجزائريين يرهقون أنفسهم كثيرا في محاولة منعهم من الانتقال إلى تونس. في المقابل، لا أحد يعلم على وجه الدقة طبيعة ما التزم به قيس سعيد تجاه الإيطاليين، لكن ما تفعله السلطات التونسية، بمقابل زهيد، هو منع قوارب الهجرة غير النظامية من الإبحار نحو الضفة الأوروبية للمتوسط ونحو إيطاليا بالذات، وإعادتهم إلى تونس. ولأسباب عديدة، فإن تونس لم تشرع في أي محادثات جدية مع الدول الإفريقية من أجل استعادة مواطنيها الذين لا يرغبون أصلا في العودة إليها.
أدى ذلك، كما هو منتظر تماما، إلى تحول تونس إلى مصيدة لهؤلاء المهاجرين الذين تقطعت بهم كل السبل. وبسبب خطاب الكراهية ضدهم وتعليمات السلطات التونسية بعدم إيوائهم أو تشغيلهم، وبسبب عجز هؤلاء المهاجرين عن تدبير عيشهم اليومي، فقد كان منتظرا أيضا أن يتحولوا إلى موضوع أمني. وبالفعل فإن السلطات التي قال رئيسها باستمرار أن المقاربة الأمنية لا يجب أن تطغى على التعامل مع هذه المسألة الإنسانية، لا تتعامل مع هذه القضية إلا أمنيا.
لكن المصيدة لم تنغلق على هؤلاء المساكين فقط، بل بالأساس على تونس بسبب طريقة تصرف السلطات. لم توجه الحكومة أي انتقادات مباشرة او غير مباشرة للسلوك الجزائري، حيث يكاد نقد الجزائر يصبح من المحرمات الرسمية، حتى لو كان ذلك السلوك من أسباب الورطة الحالية. أما إيطاليا فإنها تكاد تكون المنفذ الأوروبي الوحيد الذي بقي مفتوحا في وجه الرئيس قيس سعيد فعليا، وهو ما يدركه الإيطاليون جيدا ويمارسون بسببه الابتزاز تجاه تونس. بطريقة أو بأخرى، أدى سلوك السلطات الذي حكمته الأزمة الشاملة اقتصاديا وماليا، إلى وضع نفسها في موقف شديد الحرج حتى على مستوى ممارسة سيادتها. الحقيقة أن السلطة تتحدث عن السيادة كثيرا، ولكنها تخطئ ككل مرة الهدف، وعوض تحميل جاريْها جزءا من المسؤولية عن الأزمة، فإن دعايتها الرسمية متوجهة باستمرار لهؤلاء المساكين الذين تعتبرهم خطرا على تلك السيادة. لقد فات أوان الخروج من هذه الورطة بعد الطريقة التي صاغ بها قيس سعيد تحالفاته الإقليمية، بل إن تجاوزها غدا غير ممكن دون كسر بعض الفخار، وهو ما لن تقوى عليه السلطة الحالية بتاتا.
لقد ترك الجيران تونس تتخبط لوحدها في هذه الأزمة، لكن أعظم جزء من الورطة كان في الوقت نفسه نتيجة مباشرة لسياسات تلك السلطة ونظام تحالفاتها الخارجية بعد أن أحسنت عزل نفسها. تتوجه السلطات اليوم إلى تعميق الأزمة والبحث عن أكباش فداء عبر مهاجمة منظمات المجتمع المدني الناشطة في ميدان اللجوء، وعن طريق تحريض الرأي العام عليها واتهامها بالخيانة الوطنية. في نفس الوقت، يعلم عدد من المسؤولين أن لهذه الجمعيات دور أساسي في مساعدة الدولة على الحد من مخاطر قضية المهاجرين.
هذا نموذج واضح عن الطريقة التي تتصرف بها سلطة شعبوية معنية بصورتها أكثر من عنايتها بحل الأزمات بطريقة عقلانية واستباق تفجر تلك الأزمات. لقد تحولت تونس إلى محتشد للاجئين غير النظاميين، وهو ما رغبت فيه أوروبا باستمرار، بل ما كانت تتوقع أن تنفق من أجله الكثير. لم تنفق أوروبا شيئا يذكر إذا، وحصلت في المقابل على أكثر مما كانت ترغب فيه. الغريب أن هذه النتائج تحققت تحت غطاء كم هائل من الخطب العصماء التي أطلقها الرئيس باستمرار في موضوع "المقاربات الجديدة" للهجرة غير النظامية، و"السيادة الوطنية التي تمنع دولة كتونس من ان تلعب دور حارس للحدود الأوروبية". لم تحفظ السلطة صورتها ولا سيادتها، ولم تنجُ من ورطتها، فتحولت إزاء هذا الموضوع إلى مجرد إدارة عاجزة بلا رؤية تكتفي بنقل المهاجرين عنوة من منطقة إلى أخرى عندما يضيق ذرع الأهالي بهم. نظريا لا يبدو ذلك، على الأقل، سيئا جدا للسياحة.