في جماليّة قدسيّة ملحمة طوفان الأقصى أو ثورة العالم على الصّهيوأمريكية الامبريالية

إلى روح شهيد الأمّة القائد المربّي اسماعيل هنية
إلى إخوانه المجاهدين الأبطال المرابطين في كلّ جبهات محور المقاومة


…

التّأمّل أدبيا وفنّيا وعسكريا وإيديولوجيا في جماليّة قدسيّة ملحمة طوفان الأقصى، وهي مازالت رحاها تدور على أشدّها، ليس سهلا رغم زخم المعلومات والأخبار والوقائع والأحداث المريرة والقاسية. غير أنّ السّؤال في حدّ ذاته يعتبر رحلة من رحلات المعرفة ومحاولة إنجاز إلى حدّ ما. فكيف إذا على أساس معطيات دامغة وافتراضات كذلك مازالت في طور التّحقيق لم تكن بعد مدوّنة بالكامل يمكن الإجابة عن السّؤال؟ وما معنى الجماليّة بتناولها من كلّ ما يحوّلها إلى معاناة وعذاب وتعذيب وسفك دماء وصاديّة مطلقة، وربّما ذلك يتغلغل في الواقع إلى حد القبح، وكذا كلّ ما ينتج عنه من عنف مرعب على الشّعب الفلسطيني، والسّؤال لم يجتاز بعد مفترق جدال عالم لا يدرك معنى الواقع إلاّ من زاوته المغلقة؟ وكيف يمكن التّعبير بشكل آخر عن جملة من الخصوصيّة الفنّية للملحمة الفنيّة المنقولة مباشرة من الميدان، وما مدى تأثيرها على وجدان الأمّة؟ وكيف صاغت الصّهيونية العالمية مشروع إبادة جماعية مشتقّة من عمق تاريخ الرّأسمالية الإرهابية؟ بعض أسئلة هي من إشكالية أشمل للظّلم المهمين بأغلاله على شعب مستضعف ومستنزف، يراد له بقانون الغاب الصّهيوأمريكيّ الاندثار والموت، بعض أسئلة في الحقيقة تبحث عن مسارب ضوئية للإجابة عنها من رحم دياجير الألغاز وغربة الغرب المبهرة.

شذرات من تشكّل الوعي العالمي

لم يكن صدفة أن يتمرّد شباب العالم الأعمق وعيا على سلطة مركزية صهيونية إرهابية غربية زجّت بجلّ دول الجنوب الشّامل في دائرة نفوذها، وذلك خوفا من محايدتها معسكر الاستسلام الصّهيونيّ، مجبرة إيّاها على الاستعباد للإمبراطورية الصهيوأمريكية الامبريالية. غير أن ذلك التمرّد الطّلاّبيّ السلميّ المبهر في الجامعات الغربية على سلطة الإدارة المنحازة للوبيات المافيا الصهيونية ومراكز البحوث الأكثر تطورا، المتعاونة مع الكيان الصهيوني في قطاعات عسكرية وتكنولوجية واستيطانية ومالية واقتصادية حساسة كان للجزيرة والمنار والميادين والمسيرة والغد والقنوات الإعلامية والإعلام الحر وغيرها دور محوري في تعريتها إلى النّخاع وكشف مزاعم العدو الزائفة وأكاذيبه ونشر مجازره الوحشية في حربه الهمجية على غزة على أوسع نطاق.

كما لم يكن أيضا انشغال العالم من جديد بالقضية الفلسطينية دون ملحمة المقاومة البطولية الدفاعية عن غزة وفلسطين التّاريخية التي تخوضها المقاومة بعقيدة وإيمان حديديين قلّ نظيرهما في التاريخ. ورغم كل إمكاناته المادية والتكنولوجية والعسكرية الهائلة التي تدعمها وتعززها يوميا منذ أكثر من عشرة شهور الدول الغربية وبعض الدول العربية المتصهينة الممسوخة من عتاد وذخيرة وأساطيل حربية ووحدات عسكرية قتالية وتجسسية وهندسية وكتائب غربية وعربية منخرطة مباشرة في قتل أكثر عدد ممكن من الشعب الفلسطيني، فإن المقاومة مازالت صامدة صمود الجبال، وكل يوم يمر على العدو تشتد مرارته وتتفاقم خيبته وتتسلل" لقلبه الحجريّ"، كما يصفه القرآن في صورة البقرة، شيئا فشيئا هزيمته التي لم يقبلها منذ 7 من أكتوبر رغم سقوط نجمه السّاطع زيفا المدوّي.

وفي خضمّ هذا الزخم الكثيف للأحداث والوقائع المتناقض الأقطاب والأهداف تبرز المقاومة بفعلها المقاوم كدفقات حمى زلزال يجرف ظلمة حالكة لفّت العالم بلحافها زمنا طويلا، واستقرت بقلوب النّاس وهي غير واعية بما هو بصدد التشكّل. إذ قبل بلورة هذا الإرهاب البنيويّ المعولم ضد شعب أعزل لسحقه لا لشيء سوى لأنّه يقاوم من أجل استرجاع أرضه المسلوبة أمام خذلان العالم وتواطئه، والتي مازالت أرضه تسلب كل يوم من عصابات صهيونية فاشية لم يكن لها في التاريخ أي وجود أو علاقة حقيقية بأرض فلسطين، فإن منظّمة الأمم المتّحدة، كباقي المنظّمات الدّولية، اكتفت طيلة هذه الحقبة الطويلة من التاريخ المحرّف بإصدار قرارات شكلية تدين دولة الاحتلال الصهيوني دون تجسيد عملي على أرض الواقع، وهو ما جعل الشعب الفلسطيني شعبا لاجئا، مشتتا، تديره المنظمات الإنسانية الأممية والمنظمات غير الحكومية حتّى داخل فلسطين نفسها وفي شتّى أصقاع العالم.

ومن الأهمّ بمكان أن نلاحظ أن الأمم المتّحدة تواصل من خلال تصريحات أمينها العام التّعتيم والتضليل والمراوغة والتّسويف حول تحديد المجرم الحقيقي طيلة خمسة وسبعين عاما، محاولة خلط المعايير بين الضحيّة والمجرم دون ذنب، وهو ما عمّق التّناقض وتوظيفه عمدا قصد استحالة الوصول لحلّ عادل للشّعب الفلسطينيّ واسترجاع أرضه المسلوبة. ولكن كيف تتجلّى المعركة في الميدان وكيف يمكن تحديد الاستراتيجيات الحربية ؟

إستراتيجيتان حربيّتان في الميدان

وبالرجوع للحروب الخاطفة التي شنّها العدوّ والتي باتت رمز إرهابه في كلّ المنطقة العربيّة، مستمدّا إيّاها من العقيدة الاستعمارية النّازيّة التي في جزء منها كان منظّرا لها، لطالما أنّه يرتبط جينيا بالقبائل الجرمانية التي عمّرت بألمانيا وصنعت لها قدرا وكذا كافّة الدّول الأوروبية. وأنّ اعتبار هدف الحرب هو سحق العدوّ بالكامل، كما يلوّح قادة الاحتلال الغاشم، بتوفير كل الإمكانات الحربية الممكنة لتحقيق ذلك، بما في استعمال العنف البربريّ بكل أشكاله من دور حاسم للانتصار، بحيث إنّما الحرب بعبارة أخرى بالنسبة لنتنياهو هي وسيلة لتحقيق أهدافه السّياسيّة. وكما دوّنه كلوزويتش، الجنرال الألمانيّ المنظّر للحرب الاستعماريّة التّوسّعيّة لنابليون بونابرت، المشمئزّ من استبداد الإمبراطور المسوني الصهيوني، بعد أن خاض معاركها مع الجيوش الرّوسية ضدّ نابليون بونابرت نفسه، فهو يعتبر أن غاية الحرب هي استسلام العدوّ بالكامل بعد هزيمته، وهو ما حقّقه ضدّ عدوّه على ساحة القتال، والذي ما فتئ يردده نتنياهو باستمرار غير واع بهزيمته.

ومن ناحية أخرى، فقد يمكن سبر طبيعة المعارك الدّائرة في غزّة والضّفّة الغربية وعمليات ردع العدوّ في باقي محور المقاومة على ضوء فنّ الحرب لسين تزو، الذي لا يعتبر النصر الحاسم إلاّ بشرط ارتباطه بتساوي أهمّية معرفة العدوّ وأهمّية معرفة الذّات قبل كلّ الاعتبارات للمقاتل، غير أنّ في هذا الحال إن كان المقاتل لا يكتفي إلا بمعرفة نفسه ولا يعبأ بمعرفة العدوّ، فالحظوظ في الانتصار والخسارة متساويين، أمّا في حال إذا كان المقاتل لا يعرف العدوّ ولا يعرف نفسه، فكل المعارك ستقوده حتما للهزيمة.

ولا شكّ أنّ القائد يحيى السونار وإخوانه قد أدركوا جيدا أهمية ذلك الجانب البنيويّ النفسيّ للعدوّ في إدارة فنّ المعركة وعلاقتها بالنصر وما أدّت إليه من تكبيد العدوّ خسائر فادحة في الأرواح والعتاد لم يسبق له في حروبه الخاطفة من قبل منْيها.

ولكن في سياق آخر لا يقلّ أهمية أيضا، فإنّ المحارب في حال عدم اهتمامه بثنايا فنّ الحرب وأسرارها، فقد يعمّق بسلوكه غير المسئول هوّة عدم التكافؤ بكل مستوياتها في المواجهة والصّراع مع العدوّ، وهو ما لم يغب عن المسلم الفطن المجاهد، إذ كان دائما حاضرا بفطرته ولم يُخف قطّ عن المسلمين بصفة عامة في حروب الفتوحات الإسلامية التي بلور قياداتها فنّا حربيا عبقريا قد خلّده كتاب اللّه العزيز بما يستحقّه المسلم من دروس وعبر في الجهاد، قوامه العقيدة الحربيّة الرّاسخة والإيمان والصّبر والعزيمة والجرأة والثبات والتضحية من أجل تحقيق النّصر المبين.

فإستراتيجية مباغتة العدوّ تستوجب، كما أدركته المقاومة باكرا، الاستعداد الكّلّيّ للقتال بما في ذلك التّدبّر المحكم لإدارة الحرب والتّحكّم في الزّمان والمكان وعمق الاستشراف الاستراتيجي. كما أنّ فنّ الفرّ والكرّ والإغارة الخاطفة والاختفاء وتكييف الميمنة والميسرة والمؤخّرة والمقدّمة باستمرار، وهو ما يخضع في ساحة القتال لحركة دائمة، الذي أبدع المسلمون في إدارتها برسم الانتصارات الحاسمة. إذ يكفي هنا التّذكير بسيف اللّه المسلول رضي اللّه عنه في معركة مؤتة ضدّ تحالف الرّوم والسّيسانيين وكيفية بلورة ذلك الفنّ الحربيّ في الميدان، أو معركة تبوك المقدّسة الأخرى من معارك المسلمين في زمن الرسول التي أدارها الرّسول بنفسه صلّ اللّه عليه وسلّم، والتي أدت إلى فرار جيوش الرّوم قبل اندلاعها، وما أفرزته خاصّة للمؤمنين المخلصين من حقيقة بالمنافقين وأعداء المسلمين اللذين تناسلوا أيضا في عصرنا هذا دولا وزعماء وفرادى وجماعات. ولا شكّ أنّ العبرة في كلّ ذلك من حروب قادها الصّحابة بكفاءة عالية رضي اللّه عنهم جميعا إلى منتهاها لتأسيس الدّولة المحمّديّة والدّولة الرّاشدة المقدستين من أجل نشر الإسلام في شتّى أصقاع الكون، إذ أنّها تعكس في جوهرها فطرة المسلم المستقيم، المتشبّث بقيم حضارته، المتشبّع بالانفتاح على الآخر، المتوكّل على ربّه لنصرة دينه وإشعاع أمّته في زمن نعيشه غير زمن المسلمين يتّسم بردّة جارفة لم يعتدها التّاريخ من قبل.

ملحمة طوفان الأقصى وكسر ظهر العصابات الصّهيونيّة المرتزقة

البنية الثّقافيّة التّحتية للمقاومة

ليس من الصّدفة بمكان أن يحوّل الكيان الصّهيوني، منذ أوّل وهلة اغتصابه غزّة، المدارس والجامعات والجوامع والمساجد والمكتبات ودور النّشر والتّوزيع والمراكز الثّقافيّة إلى غبار ركام ودمار، إذ أنّه قد أدرك أن الحرب التي يخوضها ضدّ المقاومة وصمودها هي بالأساس حرب تربوية وثقافية وحضاريّة، التي على غرار النظام التربويّ والثقافيّ الاستعماري المتّبع في الدّول العربيّة والإسلامية، قرّر اغتيال محتواها الإسلامي. وهو ما أعلنه بلا خجل المجرم نتنياهو منذ الأيّام الأولى لاغتصاب غزة كهدف من أهداف الحرب، ملتزما بإعادة هيكلة مناهج التعليم حسب الإيديولوجية الأبرتايدية الصّهيونية. وقد لا يخطئ في تقييمه بما يستبطنه من أهمّية الأسباب الجوهرية المرتبطة هكذا الهدف التي شلّت العالم العربي والإسلامي في تحرّره من الاستلاب الشّموليّ وأخبثه ألا وهو الاستلاب التربويّ والثقافيّ، الذي دمّر منهجيا، باسم الحداثة الزّائفة، البنى الذّهنية للأمّة التي لولا الاستبداد القهري المدعّم استعماريا بلا توقّف منذ قرابة قرن من الزّمن لتخلّصت من تلك الأغلال الجائرة ولاستعادت مكانتها بين الأمم المتقدّمة.

غير أن الشّعب الفلسطينيّ المتعلّم، حتّى تحت وطأة القنابل المتفجّرة بدياره في كلّ لحظة من صموده، بقي يقظا ومقاوما لتلك الخطّة الماكرة، متشبثا ببقائه في أرضه عنوة على المحتلّ النّازيّ، رافضا التّهجير القسريّ حتّى وإن قتل، مقبلا على التّأقلم مع أوضاع الحرب الإرهابية والإسراع بالمبادرة بفتح المراكز التّربويّة لمواصلة التّعلّم في الخيام وزرع روح اللّه في قلوب الأطفال اللّذين يحملون المشعل لتعزيز النّضال وتحرير فلسطين بإذن اللّه.

فالقرآن الكريم باستبطانه نظاما تربويا قويّا صلبا وبنية سيااجتماعية أخلاقية متكاملة أراد الله منه أن يكون دستورا إلهيا مثاليا لبناء شخصية المسلم القدوة للإنسانية قاطبة. وقد سهرت الشّعوب المتحرّرة من الاستعمار على جعله المادّة التّكوينيّة لعقول الأجيال المخلصة للّه ونبيّه والأمّة. ولم يفت المقاومة أهمّية ذلك القوت الرّوحيّ الذي نحت شعبا عظيما لا يُهان ولا تُدنّس معتقداته ورموز دينه إلا وتحرّك وواجه العدوّ بحماس وصلابة.

أمّا الواقع التّربويّ والسّياسيّ العربيّ والإسلاميّ فلا يمكن مقارنته بأيّ حال من الأحوال بهذا النّظام التربويّ العسكريّ العتيد الوقّاد بروح المقاومة في بنيته الخلفية، لطالما أنّه قد رفض أن يجعل من المدرسة بؤرة لاجتثاث قيم الإسلام وترسيخ حداثة استعمارية غايتها تأبيد التّبعيّة والانحطاط والفساد والتّحلّل الأخلاقيّ والتّغريب .

عبقريّة المقاومة

إنّ المتأمّل في تاريخ المقاومة القصير جدا، مقارنة بتاريخ الدّول العربيّة والإسلاميّة إلى اليوم شبه مستقلّة، يلحظ ملازمة الاعتماد على الذّات وفقه التّدبّر لتغيير أحوال النّاس والواقع. علما أنّ حركة المقاومة الإسلاميّة بفلسطين تتميّز بتاريخ عريق متشعّب عبر التّاريخ بما له من علاقة عرقية عميقة بالصّحابة والفتوحات الإسلامية والحركات الصّوفية وزواياها التي لا تحصى ولا تعدّ. ومما لا ريب فيه فإنّها قد لعبت دورا عضويا في تربية الأجيال على القيم الإسلامية العالية، خلافا لما ميّز جلّ الزّوايا في بلادنا من عمالة للاستعمار اللقيط، الذي منذ اغتصابه الدول العربية، شرع في تفكيك تلك الزوايا التي كانت الضامن المطلق لتربية إسلامية أصيلة. وعلى سبيل المثال، فإن اعتقال المقاوم علي بن غذاهم لظّلم البايات قد تمّ على يد الزّاوية التّيجانية، وغيرها من الزّوايا التي طبّعت على غرار الدّول العميلة مع قتلة المقاومين في البلاد العربيّة.

لكن لا يمكن هنا المقارنة بالمقاومة في غزّة ولا بمحورها بصفة عامّة. ذلك أنّ المقاومة الفلسطينيّة بتكوينها الفكريّ والرّوحيّ والإيديولوجي، المستمدّ من صلب كتاب اللّه الحكيم، يهدف جوهريا إلى خلق "جسد واحد للأّمة إذا اشتكى منه عضو اشتكي باقي الجسد." فالمقاوم إذا هو الأمّة والأمّة هي المقاوم على الإطلاق، وكلّ الفعل المقاوم أكان مدنيا أو سياسيا أو عسكريا أو تربويا أو ثقافيا يتداول عليه بتنسيق دقيق المقاوم الميدانيّ كما المقاوم القائد العسكريّ السّياسيّ المتسلّح بصلابة العقيدة الإسلامية القويّة المتشبّعة بقيم الحقّ وحقّ استرجاع الأرض والدّفاع عنها. ويمكن القول، في هذا الصّدد، بأنّ المقاوم يمتاز بروح خلاّقة بديعة تعكس عبقرية تتناغم في وحدة جينيّة روحية جماعية، لا يرفضها، إلا زمرة عباسية قليلة ضالة تلعب دور المخبر لصالح الغاصب، اصطبغت بالعمالة والخيانة، وهي قضيّة كلّ الأمّة التي برهنت على تخاذلها وتواطئها مع العدوّ دون محاولة وضع حدّ للتّطهير العرقي المتواصل. لكن لملحمة طوفان الأقصى مزايا فنّية وغنائية تتطلّب البحث وتحديد معالمها.

الجماليّة الغنائيّة

لتناول هذا الجانب من الملحمة، كان علينا الاعتماد على مدوّنة شعرية، وهي لا شكّ متوفرة وافية تزخر بها شبكات التّواصل الاجتماعي التي ما فتئت تحتفي بالفعل العسكريّ المقاوم في ساحة القتال على امتداد خمسة وسبعين عاما واستمداد بلاغتها من ثنايا وجدان البطل الخارق والأسلوب والصّور والاستعارات والإيقاع والتوغّل عبر التّاريخّ في صمود فلسطين المغتصبة. بل بالإضافة لذلك، كان من البديهيّ أن نركّز العمل على بلورة مقاربة نظريّة منهجية لإبراز استفراد الفعل العسكري البطوليّ للمقاومة في الميدان، غير أنّ هذا المشروع البلاغيّ لا يمكن تجسيده على أرض الواقع إلاّ بالاعتماد على المعركة الحيّة الدّائرة رحاها منذ أكثر من عشرة شهور وكيفيّة إدارتها من طرف رجالات المقاومة الأفذاذ. إذ أنّ خوض أغوار هذه الملحمة النابضة بالحياة رغم عمق الألم والمآسي وسفك الدّماء والدّمار لا يجوز مقارنتها بالملاحم التي خلّدها التّاريخ بما تحمله من عمق عبقرية الأمم التي نتيجة انصهارها بها جعلت منها هوية خالدة.

وليس هنا التّأمّل في ملاحم عابرة للأزمنة والأمكنة إلا لإضاءة ما يمكن إضاءته في علاقته بملحمة طوفان الأقصى المقدّسة وما أفرزته من إعادة إحياء روح الأمّة المكلومة منذ قرون. فعلى سبيل المثال، فإنّ ملحمة جلجامش تحوّلت إلى أسطورة كونية نبعت من تاريخ عراقي مجيد مازالت الشعوب تحتفي بمآثرها وما قدّمته للإنسانية من نور مكّن الإنسان من ثني خطوات فارقة في الصراع مع الأقدار والخلود وتحرير الإنسانية بالكتابة من ظلام الجاهلية. وباتجاه معاكس تماما، نكتشف بالأوديسة الإغريقية أوليس وهو يتخلى عن معركته للخلود ليقضي حياته يتصارع مع الحياة و مصاعبها من أجل حبه لزوجته بينيلوب. وغيرها من الملاحم الأخرى التي خلّدت حضارات أمم ما فتئت تستقي برحيقها المنعش. ولا شكّ أن الإلياذة لهومير أو الإنِييد لفرجيل يمثّلان ملحمتين أخريتين ترسمان في سياق تاريخي معيّن، يتسم بالحروب بين الإغريقيين وأثينا، عبقرية البطلة إيني التي غادرت بلادها بحرقة بعد هزيمة أثينا ليستقر بها القدر بإيطاليا حيث أسّست روما.

ولتعميق هذا الجانب من التاريخ الملحمي للأمم، يمكن أيضا الرّجوع لتيسيديد، الجنرال الأثيني، الذي درس حرب بيلوبونازالامبريالية وبيّن تكتيك الحرب وفنّها بمهارة فريدة. وللأمّة الفارسيّة نصيب هامّ أيضا من التاريخ الذي خلّدته عبقريتها في الشاهنامة لأبي قاسم الفردوسي واستبطان عبقرية شعرية فارسية رائعة، أو المهابهاراتا الملحمة الهندية، وكلها ملاحم تتغنى بالأبطال الأسطوريين اللذين لا يقهرون.


…

وللتّعريف بالملحمة بإيجاز، فهي تعكس عبقرية أمة يجسّدها عادة نشيد يسرد استفرادها ببطولة فردية أو جماعية خارقة تجمع في كلّيتها البنيوية التمثّل الاجتماعيّ-السّياسيّ-الدّينيّ، مقنّنة بدستور أخلاقي يستبطن جماليّة فريدة تتشكل في لحظة تاريخية فارقة من مسيرتها التراكمية بالإنجازات العظيمة.

وفي لسياق متّصل، فإنّ معركة طوفان الأقصى المقدّسة تجسّد الملحمة بكلّ المقاييس، وهي مازالت عمليّاتيا، بمحور الإسناد والدّعم للمقاومة الغزّية، تلهم الإنسانية قيم التّضحية والحقّ، تتغنى، رغم عدم التكافؤ بين المحتل وحلفائه الظالمين والمقاومة، بالانتصارات ودكّ العدوّ دكّا وتكبيده أفدح الخسائر في العتاد والأرواح منذ اغتصابه لفلسطين.

وكما سنبيّنه لاحقا، فالملحمة تتميز بخصائص فنّية وغايات سامية ينصهر بها أبطال استثنائيون كرمز خالد عبر التّاريخ لأمّة خارقة.

وبقطع النظر عن أنها غرض شعري من بين الأغراض الأدبية، فالملحمة تهدف إلى تخليد نشيد فريد يولد من صلب قريحة أمة عظيمة، وهو يؤسس لتثمين علاقة تبادل كثيف بين الشاعر والأمّة المتلقّية. فالملحمة تتطلّع، بقوة التعبير الخارق و مجازاتها، إلى إرساء ذكرى فردية أو جماعية مرتبطة بلذة السماع العاطفي والفكري والجمالي التي يحييها الصوت الوهاج للشاعر. وحتّى الملاحم الغابرة كتلك الإغريقية، المشار إليها آنفا، تسعى في جوهرها إلى بلورة وتبيان فيض المشاعر واتقادها بتواصل الزاعجات حتى المجهولة منهنّ والمخرجين القدامى مع الجمهور. فالصور الكلية والإيقاعات الوترية والفكرية والجمالية التي يثيرها الصوت والحركة، وإن في بعض الأحيان تبتكر روايات مشحونة بقيم الهوية، فإنها تؤدي إلى خلق علاقة قوية بين الإيديولوجية وأيّ شكل من أشكال الملحمة في سياق اجتماعي-ثقافي محدد. إذ ذاك يجعل الملحمة، بقوتها المؤثرة في الجمهور، نمطية مطلقة. كما أنّ البعض يعتبرها أداة للترفيه ووسيلة من وسائل التعبير الحسي-الإثني القومي.

وبالإضافة لذلك، فأن النشيد الملحميّ يمكن أن يمتزج بالفعل الدينيّ السحريّ. إذ من أهم خصائصه أنه يعبر عن جدوى الرمزية وما تزخر به من إحياء لصفاء الرّوح والرحمة والابتهال والانصهار الوجداني. إنّه هبة إلهية يسعى الشاعر من خلاله إلى استبطان توازن نفسي عميق ينعكس بتناغمه وتآلفه على الفرد والمجتمع لتوطيد علاقتهم بالمجد العظيم الذي لا تصنعه إلا الأمم الاستثنائية.

كيف يمكن تعريف ملحمة طوفان الأقصى المقدّسة ؟

يبدو أن المحلّلين العسكريين قد اتفقوا على أن ملحمة طوفان الأقصى لا تتنزل في أي مقاربة عسكرية أكاديمية تداولها التّاريخ من قبل. والمدهش أكثر أنها، بتبني فنّ حربي مستمد من محض العبقرية الحربية الإسلامية بمرجعيتها القرآنية ودروس وعبر السلف الفاتحين، تنشق بذلك استراتيجيا عن أدبيات الغرب الحربيّة بمنوالها العسكريّ الأكاديمي الذي، خلافا لها، يستمد منه الجيش الصهيوني خططه الحربية وإمعانه في الإرهاب والتدمير الشاملين، وهو ما لا يختلف قط عن حملات الاستعمار الإجرامية طيلة قرون التي عانى منها الوطن العربي والإسلامي ومازال يعاني من تداعياتها طويلة المدى المدمّرة التي تعتبر من أحلك فترات تاريخه. وكما يلوّح له قادة الاحتلال النازي بأن الحرب التي يقودونها ليست إلا حماية للحضارة الغربية، معتبرين إياها حربا ضد الهمجية والإرهاب الإسلامي، بحيث إن مثل ذلك الإسهال العفن لا يختلف عما روّج له الصّهيونيّ سَمويل هنْتنْجتون بكتابه "صدام الحضارات" الذي أسس من جديد لحملات صليبية لن تهدأ إلا بمواجهتها ودحرها. وأنّ المجرم العنصري نتنياهو، كما بوش الأب وخاصة بوش الابن الذي أعلن أمام العالم حربا صليبية ضد العراق، يعترف ضمنيا من خلال ما دأب تكراره بأن دولته مشروع استعمار لأرض غير أرضه و شعب بلا أرض منذ آلاف السّنين قد ابتزّها، وهو واع تمام الوعي بحقيقة زوال دولته الإرهابية التي بدون اعتمادها على القوة العسكرية الجائرة والخونة من عصابات العرب لما عمرت طويلا، وعلى أكثر تقدير من عمر المسيح .

فما خطّطت له المقاومة بدراية وحكمة لم يكن معجزة رغم تشابهه بالمعجزة، وما أشار إليه القرآن بقوله تعالى في سورة الفيل:" وأرسل عليهم طيرا أبابيل" أو في سورة الحاقة: "وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية"، هما مثالين من بين الأمثلة العديدة التي أشار إليها كتاب الله الحكيم، اللذين لا يتباينان بهدفهما ألإعجازي، بحيث من المهم أن تكون عمليات المقاومة، بما تستبطنه من عمق إستراتيجية حربية إسلامية، مصممة برؤية إسلامية ثاقبة غايتها الاحتفاظ بعقيدتها الحربية الإسلامية و الإيمان بحتمية الانتصار، بل يمكن نعتها إلى حدّ بعيد بالجهاد الجماعيّ الذي قد نُقشت بطولاته بصفحات التاريخ الخالد، الزاخر بالروح الملهمة بقوّة الله وقدره، وهي لا شك أنها رحيق تدبّر وتدريب وخلق وإبداع وعبر ودروس مشرقة على الأمة قاطبة، يخوضها جند الله إيمانا بحتمية انعتاق الإنسان المستعبد في الأرض ونورا يشع على الإنسانية المستضعفة.

فالعدوّ الصهيونيّ ما فتئ، منذ عقود أمام مقاومة شرسة، مؤمنة بقضيتها العادلة، يتدحرج من قمة عنجهيته وجبروته، وهو تداع منطقي طويل الأمد لا محالة أشرف على نهايته كما بيّنه عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته.

فكيف استلهمت المقاومة المعركة المقدّسة وما هي مصادرها الممكنة؟

للجواب على السؤال، لا بد من الرجوع لهجوم السابع من أكتوبر على ثكنات جيش الاحتلال أرضا وجوا وبحرا، الذي يعتبر ملحمة بكل المقاييس، وهو هجوم عسكري ممنهج صلب استهدف القوى الصهيونية الغاشمة المتمركزة على تخوم غزة التي تؤمّن حصارا إرهابيا قاتلا ضد سكان غزة منذ قرابة عقدين من الزمن.

وأنّ المشاهد العسكرية للهجوم التي بثتها المقاومة وحدها تشكل نموذجا فريدا من الفعل التحرري الذي لا يمكن إنجازه إلا بالإيمان قبل التهيؤ له وإنجازه بأقسى هزيمة للعدوّ ودحض أساطيره الزائفة التي يتغذى على مخيالها الإجرامي الاستعلائيّ الغزاة الصهاينة داخل فلسطين المحتلة وكتل الصهيونية العنصرية العالمية المتمكنة من دواليب جل سياسات دول العالم وثقافته واقتصاده وماله وإعلامه.

فالتمويه على العدو وتضليله وخدعه وتدمير شبكات تجسّسه وضربه في الصّميم والمكان الذي لا يتوقّعه ليس أقلّ من الدّفاع العسكريّ الميداني نفسه، بل يمكن القول بدون إنجازه الكامل لما أبدا أنجزت العملية بكل النجاح الذي حقّقته. فالصّور مازالت حيّة تزخر بها الذاكرة العالمية ولم تنطفئ مادامت الشعوب المستضعفة تتغنى بالمقاومة والتحرر، بل أن العالم مازال مشدودا ببلاغة جمال تلك الصور رغم عنفها حيث جنود العدوّ تمرّغ أنوفهم ومذلولين في الوحل، وهم كبقايا سلع بشرية فرجوية تعكس حضارة مادية حيوانية قد ينهي نفوذها إن لم يؤخذ في الحسبان أهمية مراجعتها، منقادون ومهزومون محمّلون ومقيدون في العربات والشاحنات وعلى ظهور الدراجات النارية نحو سجون الأنفاق.

وخلافا لما يسوّق له المحتلّ، لم يغتصب المقاومون المجنّدات ولا المشاركات في مهرجان "قبيلة نوفا" الموسيقي، وذلك إيمانا منا بأن نواميس الحرب الإسلامية ترفض جذريا ذلك السلوك المحرّم الذي تتبناه المقاومة فكرا وثقافة ومخيالا، كما أن ادعاءات العدوّ الزائفة التي جعلت منها الصهيونية العالمية حجة واهية يدعمها الإعلام الصهيوني، بعد أن تبنتها بعض الدول الغربية التي تحكمها سياسات صهيونية محضة، لا علاقة لها أبدا بالصحة والحقيقة. وأن الهدف منها هو تشويه المقاومة الإسلامية التي يسعى من ورائها العدو الإساءة للإسلام باتهامه بالإرهاب كما دأب عليه منذ حملات الاستعمار الغاشم والحروب الصّليبيّة، وهو ما أسست عليه الأنظمة العربية والإسلامية الخائنة العميلة سياساتها الحقدية والعدائية لمقاومة الإسلام السياسي وكل ما يتولد عنها من إنجازات سياسية تحررية للأمة العربية و الإسلامية.

بحيث لا يمكن قياس ما حدث في ذلك اليوم المشهود إلا بمدى فرحة الشعب الفلسطيني وبهجته الذي ما زال ركام وخراب غزة يتزين براياتها مرفرفة، وإلى الأبد تبقى الفرحة الشعبية منقوشة على جبهة التاريخ. لا أكثر ولا أقلّ، إنها روح أمة تُبعث من جديد لتحلّق في سماء النصر المحتّم.

فمعركة طوفان الأقصى المقدّسة هي بالأحرى غنائية ملحمة عظيمة يسطّرها جند الله على نهج الرسول الفاتح صلعم والصحابة رضي الله عنهم جميعا. ولا يُخطأ سائل بقوله أنّ جند الله تحولوا إلى أشباح يدمّرون متى شاءوا أثمن إنجازات التكنولوجيا العسكرية التي وصل إليها الكيان الصهيوني والغرب. وأن هشيم ذكاء العدو يشتعل رمادا في كل مكان من أرض غزة وفلسطين الصامدة. وكأن بحر غزّة بهيجانه الغاضب ورياحه المطهّرة بعد أن حمل مراكب المقاومين تحوّل إلى حقل قمح شاسع يفيض بروح غزة المتصوّفة، حيث غمرات السنابل تمدّ أعناقها نحو السماء مبتهلة صامدة أمام الحرائق الصهيونية التي لم تكف عن تخريبها، محتفية بحصاد نوعي طال انتظاره. فحتّى الطّبيعة تحتفي بدفعها للمنزلقات الهوائية نحو وكر نار الصهيونية لخلعه من بطشه المتوحش.

ومن لم يفتتن بذلك الفارس الخفيف في فرّه وكرّه والاختفاء السريع في أحشاء غزة، وكل ذلك في إطار تنظيم خفيف يخضع المجاهد من خلاله للانضباط والتدريب والإعداد العالي، أو ذلك المقاوم الممتشق المتقن فنّ زرع العبوات الرعدية والتلفزيونية والناسفة وإطلاق الصواريخ بكل ما في تلك العمليات الجريئة والشجاعة من تأهب وفروسية وتكتيكات حربية، أو ذلك المقاوم المرتشف فنجان شاي وهو يعزف جيئة وذهابا أرجوحته السّحرية فوق الرّكام، أو ذلك القناص الماهر وبيده الغول القاهر المتكئة على مخدة الرّاحة، الذي لا يخطئ أبدا في الرماية، نخاله أحيانا عائدا من معارك الفتوحات الإسلامية التي كرّمت المسلم وأعزّته وغرست في روحه قيم الرجولة والمروءة وفطرة الجهاد والامتثال لقوة الله الساحقة وتحدي كل ظالم مغرور.

ولايستطيع أحد التشكيك في ثقة المقاوم وحرصه الشديد على الانتصار في ساحة القتال التي بوحدتها أذكت روح الجهاد الإسلاميّ في غزة وفلسطين من خلال الإسناد والإمداد الدائمين على كل الجبهات. فحينما يثور يــمـن الإيمان والحكمة على غرار لبنان العظيم والعراق الغيور الصامد، وكلها ساحة كفاح واحدة ترفرف بسمائها روح الله ورايته لأول مرّة منذ قرون، ذلك يعني أن الأمة الإسلامية تستفيق من سباتها وتعيد التاريخ إلى مربعه الأول. ولا شك أيضا أن الوعد الصادق قد أضفى دينمائية للمعركة، مانحا إياها جدوى إضافية أعمق بتثبيتها على أرضية عقائدية إسلامية تحدِّ وانتصار لم تعد وهما.

وبذلك لم يكن ممكنا للقوة الصهيوأمريكية الامبريالية مواصلة العمل، بطرق خداع مختلفة، على أيّ مراهنة على تحقيق وحدة "الهلال الخصيب" التي هندست لها منذ سنة 1919وبعد رسم سيكس بيكو، في سياق المشروع الصهيوني الذي أسس له بلفور في ذلك الحين لحصار الوطن العربي وإعاقته من أي تحرر، حماية كلية للكيان الصهيوني الغاصب الذي كان بصدد التشكل.

فالتحولات السياسية الجيواستراتيجية الإقليمية حقيقية لا ريب فيها، وهي ساهمت بصفة مباشرة في بداية تدمير المشروع الصهيوني العالمي. كما أن تصويت الكنيست رفض إقامة دولة فلسطينية يأتي في لحظة جوهرية من الكفاح الإسلامي لاسترجاع فلسطين التاريخية المحتلة، وهو ما سيعمق توسيع المواجهة وانتشارها بانتشار صوت الحق العالمي ضد الكيان الصهيوني وإصرار الحركات الحقوقية على نسف المشروع الصهيونيّ الذي مكّن العالم من الكشف عن حقيقته.

ومن الجدير بمكان أنها ستُسقط أقنعة الدول العربية والإسلامية المناهضة للمقاومة وستتهم المقاومة بتحمل المسؤولية كاملة في ما ألت إليه الأوضاع، منتهزة كل فرصة كاذبة يسوّق لها الاحتلال للانضمام أكثر لخياراته والتطبيع معه، وذلك ليس سوى للدفاع عن حكمها العميل بالحديد والنار، وكما أيضا تنتهجه القوة الصهيونية الغاصبة ضد الشعب الفلسطيني.

ولا نبتعد عن لبّ جماليّة قدسيّة ملحمة طوفان الأقصى حينما نبحث عن عناصر فنّية أخرى يمكن أن تبلور أكثر حركتها وجذورها الضّاربة في التّاريخ. بحيث يمكن القول بأن الرّومانسية تصطبغ بصفاء روح المقاومة وتؤهّلها بأن تكون خاصّية فنّية إسلامية مطلقة تسقي حتّى الجذور كونية الثّورة وأحلامها المشروعة.

فما هي عناصر الرّومانسيّة ومدى تغلغلها بملحمة طوفان الأقصى؟

وفي سياق لا يختلف عمّا سبق عرضه، فأنّ المقاومة تدفعها شحنة رومانسية قويّة لا تشبه الرومانسية الأوروبية أبدا لا في أسباب ولادتها ولا في أبعادها الفنية والجمالية، لطالما أنها مستمدة من القيم الإسلامية الإنسانية الكلية التي تؤسس لصياغة نوعية من الجهاد لاسترجاع نخوة الإسلام وعمق قيم حضارته. فقيم الحرية والعدل والكرامة والعزة تعتبر جوهر الرسالة التي من ورائها تتجهز كل القوى الإسلامية التحررية لدحض العدو وإسقاط الدّجل العالمي. وإن حاولنا التعريف بهذه الرومانسية الإسلامية يمكن القول بأنها ثورة جذرية على الخنوع والعمالة والاستعمار وآليات السّلطة المختلفة التي تجيز ظلما واستبدادا قمع الشّعوب وتدمير العبقرية الجماعية.

فالرّومانسية الإسلامية لا علاقة لها أصلا بالرّومانسية الغربية، إذ أنها تسبقها زمنيا، خلافا للأخيرة بحداثتها التي قوامها الغرائبية وتثمين الماليخوليا في الإحباط والنشوة واتسامها بكثافة صور الليل والقبور ونشوة الأنا الفردية وافتتان الفرد المريض بالطّبيعة والقوى الخارقة، مستمدّة في عمقها من القرآن الكريم الذي يحرّض المسلمين المظلومين على التمرّد لخلع أنظمة المظالم والفساد والبغي والبطش. وهي أيضا في جوهرها ثورة جماعية مرصوصة رصّا لا تؤمن بالفرد إلاّ بكونه كائن واع بحياته الكلّية في علاقته المطلقة بها، وبربّه التي هي حياة الجماعة ذاتها في السّرّاء والضّرّاء، والتي بدورها لا وجود لها إلا بوجود انتماء الفرد لها دما وقلبا وقالبا.

وبصفة عامة، فإن الرّومانسية الإسلامية بكونها ثورة شاملة مشحونة بأحلام الحقّ والعدل والحرّية التي، بالاعتماد على الذات الجماعية المجاهدة بالإيمان الرّاسخ، هي في حقيقة الأمر أعظم جهاد من أجل إعلاء صوت حق المستضعفين وبسط سلطان الله في الأرض.

وفي السّياق ذاته، يمكن ربط الرّومانسية الجهادية بالغنائيّة التي هي رحيق بنيتها وإيقاعها الطّبيعيّ. فعلى سبيل المثال، فإنّ رومانسية أبي القاسم الشابّي تعتبر أيضا ثورة إسلامية جذرية على الاستسلام للمستعمر، وما أفصحه بمحاضرته عن المخيال العربي، واصفا إياه بالمادّيّ البحت وبمحدوديته، بل مندّدا ضمنيا باستئصال الأمّة من قيمها الإسلامية وهويتها، هو ما لا يمكن معارضته لطالما أنّ الشاعر المتمرّد على الاستعمار وخضوع شعبه قد أدرك من خلاله أنّ الأمّة حادت عن طريقها الطبيعيّ، ولم تعد قادرة على العودة لمعينها الإيماني الفطريّ لطالما أنّها ضائعة في متاهة مظلمة، بحيث إنّما هي أمّة قد أصبحت ممسوخة ومقلّدة وتابعة ومجتثّة كلّيا.

فرومانسية الشابي الإبداعية التّحرّرية تستبطن قادحا تذكيه تلك القيم العربية والإسلامية الأصيلة التي تربّى عليها في أسرة عريقة وغَرَفَ ما استطاع من خزّان نورها ومعاناتها.

وحتّى لا تكون لدينا رؤية غير شاملة حول الغنائية الإسلامية في سياق ملحمة طوفان الأقصى، فالعناصر المدرجة أعلاه تطمح إلى تعمّق أوسع في الحقل الدّلاليّ للمسألة.

فكيف إذا يعرّف المنظّرون الغنائية؟

وعلى عكس ما ذهب إليه النّقاد في تعريفهم بالغنائية الغربية وخصائصها، فالغنائية الإسلامية تتجاوز العاطفية بكونها صلاة ودعاء وذكر وابتهالات تتخلّلها الصّور الفدائية الحيّة المنقولة مباشرة من ساحة القتال على الشاشة. بحيث عزّة النّفس وكرامة الأمّة تأبيان ألاّ تتغذيان بالبسالة والتضحية والاستماتة. ولا تباين هنا في أنّ صفات سموّ الرّوح المرتبطة بالإيمان القويّ لا تكون مكتملة إلا بإدراكها كلية سموّ الله المطلقة وعظمته. فخطب أبو عبيدة مثلا تعتبر من الصلابة العسكرية الميدانية التي تتّسم بروح إيمانية عالية تطرزها خيوط العمليّات العسكرية اليومية التي التزم بكشف إدارة واقئعها وتقديم أطوارها دوريا للأمّة وما تحمله من رسائل موجّهة للعدوّ تضرب في العمق استكباره وتهزّ أركانه. كما أن بسالة القتال وإثخان العدوّ الماكر الكذّاب هو أيضا من دستور اللّه الذي لم تغب عنه جلالته أهمّية التّشهير بالعدوّ القاتل لأنبيائه والمتمرّد عليه. وللتّعّليق على حقيقة ما يدور من أحداث نوعية في ساحة الوغى، الذي لم تغادر الأمّة الصادقة، متابعة ما يتجلى من خلالها من إنجازات أسطورية، فإنّ المقاوم الشّبح يتمظهر وهو بمثابة عريس نموذجي يسحر الأنظار و"يجهّز نفسه ويتزيّن ويتعطّر" قبل صبّ نبال وأنصال الرصاص في قلب العدو، وذلك استعدادا لكل طارئ في حال الاستشهاد ولقائه اللّه عزّ وجلّ، منسجما إلى أقصى حد مع تحدّي الموت وتداعيات المعركة على مصيره المهدّد بالفناء التي لا تؤثر فيه شيئا. ولا مجال هنا للتذكير بنبرة صوت المقاتل التي تتصادى في كل أرجاء فلسطين وفي وعي الأمة، الذي ما فتئ يتشكل ويسير في سبيله نحو الهدف. وكأنّ التّكبيرات والبسملات وتراتيل آيات الله المنتقم زاد لا ينضب، ويدفع دوما إلى الأمام لإنجاز أحلام المقهورين في الأرض. وكلّ ذلك الزّخم القتاليّ العظيم ينبجس بالرّوح الصافية، المتشبثة بحركتها الدّائمة وتراتيلها الباطنيّة والعلنيّة التي تقهر صخب انفجار القنابل الصّهيوأمريكية المدمّرة للحياة والإنسان.

ولا ريب بأن حيوية زخم الفعل المقاوم بنسقه التّكتيكيّ يسعى، بنقل صور الكمائن الفتّاكة المتنوعة التي أبدع فيها المجاهدون، إلى إحباط العدوّ وتدميره نفسيا، وهي حرب نفسية نالت في العمق بمعنويات الجيش الإرهابي وقادته وفتّتت بنيانه الاجتماعيّ، وأجبرت مئات الآلاف من الصّهاينة للهجرة القسرية. فالرّوح المعنوية العالية للمقاوم يقابلها جمود و يأس المرتزق الصهيوني في الميدان، الذي يعكس بنية تنظيمية مغلقة، وهو جيش مرتزق أتى من كل فج عميق لدعم الظّلم والإرهاب الذي جمّده منهارا في رمال غزّة الكرامة.

وكما بالتّوازي مع إدارة المعركة بحكمة في الميدان يلمع بالقاهرة المتفاوضون وعلى رأسهم الشّهيد اسماعيل هنية مع العدوّ الصهيوأمريكي، حيث رغم الضّغوط الهائلة عليهم لم يحيدوا قِيْد أُنملة عن الدّفاع عن مصالح الشّعب الفلسطينيّ وشروطه الرّئيسيّة. ولا اختلاف بين المحلّلين على أن المفاوضين المقاومين مرّغوا أنف العدوّ وعمّقوا بلا رجعة شتات عصابات مستكبرة استولت على حين غفلة بالتّعاون مع الانتداب الخبيث الأنكليزي والاستعمار الأوروبي على فلسطين. إذ أن فنّ التّفاوض لا يختلف عن فنّ صمود الأنفاق وبلاغة الرّماية المتفجّرة من تاريخ عتيد صنعته أبطال عظماء خلّدهم التّاريخ، بل هو حرب لا تقلّ ضراوة عن ما يدور في الميدان.

وبالرّجوع لما يحدث في ساحة القتال، من منّا لم يبك ويصرخ غضبا إثر خبر فقدان قائد أو مقاتل أو فلسطينيّ بسيط عاد، وكلّ محور المقاومة أصبح فلسطينيا إلى النخاع، وجميعهم أعزّاء بدمائهم الزّكيّة على الأمّة قاطبة.

" نحن غزّة بسمائها وهوائها وبحرها ورمالها"، هكذا صرخ أبو عبيدة في وجه عالم صهيوني إرهابي ظالم، وهو متيقّن من أنّه على حقّ وشعبه سينتصرون، والانتصار صار قريبا. ولا خوف بعد الآن حين يبهر المقاوم بصوته الثّابت، مردّدا " اللّه أكبر والحمد لله" بعد إنجاز أصاب الهدف، وكأن في تلك الشّهادة غيث يتهاطل على غزّة وفلسطين الصّادقة النّبيلة. وحين نتأمّل أكثر في حصاد المقاومة ونتتبّع آثار الملحمة في الغرب نلاحظ عمق أهمّية انشغال النّاس بغزّة حيث أصوات "فلسطين من النّهر إلى البحر" تشقّ بوجعها السّبع سماوات والأرض.

هنا يحدث تغيير الخطاب العربيّ الخشبيّ جذريا، الفارغ من مضمون واع، وهو أفرغ من فؤاد أمّ موسى، و المؤطّر استعماريا، وكأنّه فعليا قد بدا ينهار ويتهاوى إلى بؤر الحضيض، ولم يعد أبدا قادرا على ترميم نحره إلى الأبد. "وما رميت وإن رميت واللّه رمى"، ذلك هو نشيد القيامة الحقّ. ولم ينثن الحفاة عن المشي الشّفاف إلى نهايته. أمر صادق رغم رقرقة الدّموع والأوجاع والآلام إلى أبعد حدّ لا رجعة فيه.

ومن علامات تحلّل النّظام العالميّ الوحشيّ في هذا السّياق، التقت الصّهيونيّة الدّينيّة والصّهيونيّة الأنجيليّة منذ زمن غير بعيد، بحيث أنّها قد نجحت في إعلاء مشروع رأسماليّ صّهيونيّ إرهابيّ عالمي يدوس بلا هوادة على قيم الحقّ والحقيقة والحرّية جملة وتفصيلا، وهو غير مبال بما يرتكبه، بدعمه الكيان الصّهيونيّ النّازيّ، من مجازر ونزوح قسري وتشريد وتجويع وجرف للمقابر وإخراج الدّفنى من القبور ودوسها بالدّبّابات وآلاف المفقودين وحوالي مائتي ألف بين جريح وشهيد، ذلك كلّه لا لشيء سوى لأنّه يتلذّذ نشوة بتطهير عرقي ممنهج رغم أنّه يواجهه مدد عالميّ يتصاعد باستمرار نصرة لغزّة.

لماذا "الدّول العربيّة والإسلامية ليست لها عطر غزّة"؟

هكذا غرّد مقاوم فلسطينيّ بحيرته النّافذة لكلّ ضمير إنساني حيّ. الإشكاليّة هنا طبعا ليست في عطر الجهاد، الذي لم يعد ينظر إليه كتربية وثقافة إسلامية، وإنّما هي في خنوع وخيانة وعمالة الدول العربيّة والإسلامية التي ضربت عرض الحائط القضيّة الفلسطينيّة.

وما يجدر معاينته من خلال ما حاولنا التعبير عنه حول إرهاب الصّهيونيّة العالميّة حقيقة ومجازا في غزّة وباقي العالم يترجمه، بقوّة ما آل إليه تمشّي الإبادة الجماعية للشّعب الفلسطينيّ، حلم نبدونزور بحتمية تزحزحه. غير أن هيمنة الظّلم الذي انضمت إليه الدّول العربية والإسلاميّة بشراهة وتبنتّ أوهامه وأكاذيبه حال فعليا مناصرتها عمليا ملحمة طوفان الاقصى. هكذا أيضا أبى ألا ينقل جوزيف فلافيوس وهيرودوت انهيار الإمبراطورية الرّومانية التي كان لليهود فيها دور مفصلي لا فقط في مدى مشاركتهم في إدارتها وإنما أيضا في تحمّل مسؤوليّة هويّة الهزيمة.

فبعد إعلان الكونغرس الصّهيونية هويّة الولايات المتّحدة الأمريكية في حين أنّها كانت من قبل كذلك معتّما عليها دون شك منذ الحربالأهلية لأسباب مختلفة، سنعود إليها بالتّفصيل في مقالنا المقبل" كيف صار الغرب صهيونيا II "كما التزمنا بذلك سلفا، هاهو الكونغرس من جديد يصوّت على رفض إعادة أعمار غزّة، ويستقبل قبل ذلك بأسابيع في معبد الدّيمقراطية العالمي المجرم نتنياهو ليعلن أمام العالم أنّ جيشه لم يقتل الفلسطينيين، بحيث هكذا الكذب الدّمويّ يعيد للأذهان السردية الصّهيونية الأولى التي أسّس على مقتضاها الصهاينة الكيان الهمجيّ، ألا وهي "أرض بلا شعب وشعب بلا أرض". وهو ما يستبطن اعترافه ضمنيا بالإبادة الجماعيّة التي بدأت تترعرع بدون انقطاع منذ خمسة وسبعين عاما. يلتقيان هنا تاريخ الولايات المتّحدة وتاريخ الكيان الصّهيونيّ، إذ أنّ القاسم المشرك بينهما يتجلى في عمق الإبادة الجماعية للهنود الأمريكيين والفلسطينيين.

وممّا لا ريب فيه، فإنّ ما يفصل المقاومة بإيديولوجيتها الصّلبة والشّعوب المستضعفة وشباب العالم الثّائر عن نظام عالمي ظالم وعنصري، هو الحلم بإنسانية متضامنة حرّة وأكثر عدالة.

العالم قد تغيّر بعد 7 من أكتوبر وعجلة التاريخ تدور عكس الاتّجاه الذي رسمته الصهيوأمريكية العالمية على غرار الخطاب الخشبيّ المتآكل حتّى مركزه، بينما الأطراف تعيد النّظر في كيفيّة إنقاذ الإنسانية من براثن الجور والتّحلّل الأخلاقيّ قبل كارثة الزّوال.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات