إما في السجن أو في طريقه إلى السجن.. هذا هو تقريبا حال كل مرشح جاد لانتخابات الرئاسة في تونس المقررة في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
ما كان يخشاه البعض أو يتوقّعه بات اليوم حقيقة ماثلة أمام الجميع: الرئيس الحالي قيس سعيّد ليس مستعدا أبدا لأية منازلة شريفة وعادلة للحصول على ثقة الشعب لخمس سنوات مقبلة، وأنه في سبيل ذلك لا يدّخر أية وسيلة لإقصاء الجميع حتى لا يبقى في المضمار سواه تقريبا، بما في ذلك إمكانات الدولة وأوّلها التطويع الكامل للقضاء وأحكامه وإخضاع هيئة الانتخابات التي تحوّلت عمليا إلى خلية لتنفيذ ما يريده.
لم نعد فقط أمام مرشحين جادين حال وجودهم وراء القضبان، في قضايا مفبركة لم تحترم الحد الأدنى من احترم الإجراءات القانونية حتى الشكلية منها، دون دخول السباق الانتخابي وإنما وصلنا اليوم إلى معاقبة كل من تجرّأ وترشح فكان لا بد من المسارعة إلى اختلاق قضايا ضدهم تمنعهم من المشاركة حتى بإثارة قضايا تعود إلى سنوات عدة، والأدهى الحكم على بعضهم بعدم المشاركة في أية انتخابات مدى الحياة!!
من لم يقع الزج به في السجن، أو محاولة جرّه إلى هناك، تكفّلت التعقيدات الإدارية التعجيزية بإقصائه بحيث التقت كل الظروف في اتجاه واحد، وهو أن الترشح غير المسموح أبدا إلا لشخص واحد اسمه قيس سعيّد وظّف الدولة بأكملها وأجهزتها لخدمة هدفه هذا.
لم يجد التونسيون من متنفس لمعارضة كل ذلك سوى حملة واسعة من السخرية في مواقع التواصل، رغم كل المحاذير، لأن محاولات إقصاء كل المرشحين تقريبا والإبقاء على قيس سعيّد يركض وحده في المضمار بلغت درجة من السخف جعلتها مفضوحة حين غاب عنها الحد الأدنى من الجدية والوجاهة، شكلا ومضمونا، بطريقة لا تحدث إلا في أسوأ الدكتاتوريات في العالم وأكثرها تفاهة.
المصيبة أن كل هذا يجري وقيس سعيّد يواصل ترديد نفس المقولات بلا كلل ولا ملل معتبرا كل شيء حوله مؤامرة يحيكها «الخونة والعملاء والمرتمون في أحضان الخارج والدوائر الصهيونية» وأن تونس ماضية تحت قيادته في «معركة تحرر وطني» لا أحد يدري ضد من وكيف. والرجل في كل ذلك ما زال «يتدثّر» بمقولة «الشعب يريد» مع أنه لم يترك فرصة واحدة للتعرّف على ما يريده حقا هذا الشعب، الذي لو كان هو فعلا يؤمن بإرادته الحرة لتركه يعبّر عنها في صناديق الاقتراع ليفوز بثقته عبر انتخابات حرة وذات مصداقية، بعيدة عن الممارسات الهزلية وحتى الصبيانية التي رأيناها.
هذا الشعب، الذي يحتكر سعيّد النطق باسمه، نراه اليوم يعاني في حياته اليومية كما لم يعان من قبل، ليس فقط من الغلاء الفاحش الذي أنهك الجميع وإنما أيضا من تردّي الخدمات مثل انقطاع المياه والكهرباء وغياب سلع أساسية من السوق، دون الحديث عن خنق الحريات التي رمت بكل المعارضين وبخمسة من الصحافيين في السجون، فضلا عن مواطنين كثر أوقفوا وحوكموا وسجنوا بسبب تدوينات وآراء في مواقع التواصل.
هذا الشعب، هو نفسه الذي يرفض سعيّد الحديث إليه إلا بلغة التخويف والتخوين والتوبيخ والهوس من كل شيء، هو نفس الشعب الذي يرفض كذلك أن يجلس مع أي وسيلة إعلام محلية لمصارحته بمشاكل البلاد الحقيقية وتصوراته للحلول، ولطمأنة فئات واسعة ضاقت ذرعا بكل شيء وليس لها من حلم سوى ترك هذه البلاد ولو ابتلع البحر أبناءها. وحتى هذا الخيار تم شطبه تقريبا عبر اتفاقات لمقاومة الهجرة غير النظامية حوّلت تونس إلى حارس حدود أوروبا مقابل مساعدات هزيلة ومهينة.
من حق سعيّد أن يطمح إلى عهدة رئاسية ثانية ولكن أية حصيلة يمكنه أن يفاخر بها ويعرضها على هذا الشعب؟! لا شيء تقريبا لا سياسيا ولا تنمويا ولا اجتماعيا بل العكس تماما هو الحاصل ففي مسح بحثي دقيق أجرته منظمة «أنا يقظ» التونسية المعنية بالشفافية والحوكمة الرشيدة دأبت عليه منذ 2015 ويخص أداء جميع رؤساء الجمهورية وكل رؤساء الحكومات المتعاقبة، اتضح أن 9 وعود فقط من تلك التي أطلقها سعيّد وعددها 72 تمّ تحقيقها، أي أن نسبة إخفاقه في تجسيد وعوده لشعبه تقدّر بـ 87.5 بالمائة!!
ويبقى الأخطر على الإطلاق هو إشكالية الشرعية ذلك أن انتخابات رئاسية لا تتوفر فيها شروط المنافسة النزيهة هي منذ البداية انتخابات معطوبة، وبالتالي فقد تذهب معظم الأحزاب والقوى السياسية والمدنية الكبرى إلى اعتبارها غير شرعية، خاصة إذا كانت نسبة المشاركة هزيلة، وبالتالي فالرئيس الذي ستفرزه سيصبح في نظر هؤلاء غير شرعي مما قد يدخل البلاد في مرحلة أسوأ مما سبق وبسمعة دولية أكثر تلطّخا، لأن لا أحد تقريبا أسقط شرعية سعيّد، حتى بعد انقلابه على الدستور وتغييره المنفرد لكل المشهد السياسي والمؤسساتي في البلاد ولكن إذا وصلنا إلى هذه النقطة فتلك دوّامة أخرى..