هي امرأة مشرّدة غريبة شاحبة نحيلة ذات شعر لولبي فاحم تنسدل خصلاته كستار يخفي وجها حزينا تكاد لا تميّز فيه الّا تلك الهالات الكالحة الّتي تحيط بعينين ضيّقتين انطفأت شعلتهما. ثيابها رثّة بالية لكنّها نظيفة و مرتّبة،تتأبّط كيسين ربّما هما كلّ متاعها في هذه الحياة.
كانت دوما ما تتسرّب بصمت إلى ركن بمقهى حيثما تقودها قدماها لتشرب قهوة مرّة سوداء جرعة واحدة ثمّ تنسحب بصمت و كأنّها لا تريد أن تثير أيّ انتباه.
قيل أنّها مجنونة و قيل أنّها مجذوبة و قيل أنّها مسكونة بجنّ، كما قيل و الأصوب أنّها مصدومة، اذ تعرّف عليها أحد متساكني المدينة المجاورة و سرد بعض أخبارها، و ممّا روى أنّها امرأة شريفة ذات أصل و نسب اسمها نزيهة توفّي زوجها منذ خمس سنوات و كان مسنّا مرحا ذا سلطة و جاه ترك لها كلّ ما يملك ليقرّر أهلها أن يزوّجوها مرّة أخرى، فاختاروا لها ممّن تقدّم طلبا لودّها كهلا ارتأوا فيه صلاحا و زوّجوها إيّاه على عجل، لم يدم زواجهما سوى ليلة واحدة ، ليلة الدخلة،لتجد نفسها صبيحتها تطرد شرّ طردة بعد أن افتكّ جميع املاكها، و لم تجد منفذا لاسترجاع حقوقها إذ كان هو من يقضي فيها لتخرج في النهاية من مدينتها بخفّي حنين و تتيه في الأرض لتستقرّ في إحدى المدن المجاورة.
نزيهة امرأة طيّبة إلى حدّ السّذاجة و العبط، لطيفة لا يبدو أنّها آذت كائنا في حياتها، ابتلعت لسانها منذ تلك الصدمة و صمتت صمت القبور.
يبدو أنّها تحاول جاهدة أن تمحو كلّ ما ترسّب في ذاكرتها و قد نجحت في ذلك إلى حدّ بعيد الّا شيئا واحدا استعصى عليها و تمرّد و أبى أن يزول هو اسمها!
نزيهة اللّطيفة الهادئة تتحوّل في لحظة واحدة إلى ثور هائج بمجرّد أن تسمع أو تقرأ أو ترى اسمها، لوحظ ذلك في المقهى ساعات نشرات الأخبار عندما يتحدّثون عن انتخابات نزيهة أو حكومات نزيهة أو محاكمات نزيهة أو ممارسات نزيهة، أو عندما تتعالى بعض أصوات السذّج المغيّبين في المقهى و هم يفسّرون ما لا يفسّر في محاولة لحلب الثور، أو عند مرورها ببعض الأكشاك فتصطدم بعناوين الصّحف الصّفراء.
اسم نزيهة يدخلها في نوبة هيستيرية أشبه بالصّرع و حالة هذيان حادّة تسكب خلالها كلّ مفردات قواميس الشتيمة البذيئة و القميئة و تسبّ و تلعن اللّحظة الّتي سمّيت فيها نزيهة.