لم يحدث في تاريخ تونس إطلاقا أن يلقى القبض على برنامج إذاعي أو تلفزيوني بالمعنى الحقيقي لا المجازي وتوضع الأغلال بين يديه ويساق إلى غياهب الزنازين، وإن كانت الكثير من البرامج تستحق أن تطلق عليها رصاصة الرحمة! لم يحدث من قبل أن احتفظت السلطة داخل سجونها بأربعة إعلاميين دفعة واحدة لتحرم الجمهور من أصواتهم وبرامجهم بذريعة تحقيق العدالة. والأكثر إيلاما في هذه المفارقة الموجعة أن يحدث ذلك بعد (ثورة 2011) التي مهما اختصمنا في تسميتها واختلفنا في تقييمها يظل شهداؤها الحقيقة الوحيدة الساطعة التي لا يمكن إنكارها وسط كمّ هائل من الأراجيف والمزايدات. أولئك الشهداء الذين أهدوا الشعب التونسي كله حرية لم يكن البعض يحلم بها ولم يكن البعض الآخر يريدها. لكنها رغم أنف الجميع حررت وسائل التعبير والإعلام من أغلال وقيود لطالما كبلتها، وظن كثيرون خطأ أن لا رجعة إليها.
من حقك أن تختلف فكريا وسياسيا مع أي إعلامي شرط أن يكون ذلك تحت سقف الحرية، ومن حقك ألا تصدق أن برهان بسيس ومراد الزغيدي ومحمد بوغلاب وسنية الدهماني كانوا خلال هذا الموسم وبعض المواسم السابقة الأفضل، وقدموا العروض الإذاعية والتلفزيونية الأكثر قدرة على شدّ انتباه الجمهور وإثارة الجدل، بكثير من الجرأة والبراعة في النقد والحجاج والاستقصاء، أربعة وخامسهم نجيب الدزيري الذي يمثل لسان الدفاع عن السلطة القائمة والأمر الواقع، والذي رغم غرابة أطواره أصبح جزءا من اليوم الإذاعي والتلفزيوني، بعد أن اعتقد فريق الإعداد (دون أن يقرأ حسابا لمفاجآت الطريق) أن ذلك يكفي لخلق توازن بين الرأي والرأي الآخر، بين الموالاة والمعارضة.
وخلال هذا الموسم كان البرنامج الصباحي المشتق عنوانه من (المهمة المستحيلة) في إذاعة (IFM) الموعد اليومي الذي لا مناص منه، لأنه من وجهة نظر تقنية بحت كان قادرا على شدّ انتباه المستمعين، بسرعة إيقاعه وتنوع مضامينه وروح الطرافة والدعابة التي تصل بين فقراته، وتحتوي ما يضطرم فيها من اختلافات وصراعات. وقليلة هي البرامج الإذاعية أو التلفزية التي تتوصل إلى تلك المعادلة الصعبة، لكنها نقطة قوة (برهان بسيس) في الحقل الإعلامي وسر تفوقه على غيره من المحترفين، وما يميزه في كل البرامج التي قدمها، فهو الوحيد الذي كان قادرا على أن يجعل حوارا مع سمير ديلو عن قضية التآمر على أمن الدولة (التي تراوح مكانها) مثل الحوارات التي يجريها زملاؤه في الإذاعات الأخرى مع مهندس الأرصاد الجوية، وكذلك كانت منوعة (الدنيا زينة) التلفزيونية أيضا موعدا يوميا مختلفا وجذابا لا سيما أنها تفتح بين الحين والآخر آفاقا على الساحة الثقافية لا تهتدي إليها منوعات أخرى في تلفزيونات منافسة ولا ينجح فيها منشطون يعتقدون أنهم مقتدرون، فالمعاني كما قال الجاحظ مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ! وهذا غير متاح لكل من هب ودب.
إنني أقر من منطلق تجربة (متواضعة) في حقل الإعلام الإذاعي والتلفزيوني وفي مجال النقد الثقافي بأن وجود هؤلاء الأربعة في السجن حرم الجمهور من مادة إعلامية راقية وجادة وأصيلة. وعندما تتعالى الأصوات هنا وهناك للتشكي من الرداءة والإسفاف ومن القمامة التلفزيونية والقيلولات التي تباع فيها أواني الطبخ وحقائب السفر وأقنعة الوجه في شاشات لم يعد في وسعها إلا (بيع القرد والضحك على شاريه) علينا أن ندرك أن المسؤولية ملقاة على من أدخلهم السجن واختار من القوانين أشدها صرامة لمحاسبتهم على أخطائهم. المسؤولية تتحملها السلطة وحدها ولا فائدة من جلد الذات والإفراط في اتهام النخب والاعتقاد في أن ملاك الشاشات أشخاص جشعون غايتهم تدمير القيم الاجتماعية وتعويد المواطنين على لوك الفراغ، ليس من المروءة في شيء أن يسترسل البعض في (نقد) هؤلاء الإعلاميين وهم مغيبون قسرا، لا فائدة في معاضدة الجلاد على تمزيق لحم الضحية، إن الصورة لم تكن يوما بمثل هذا الوضوح…
سجناء الكلمة الحرة ليسوا في حاجة إلى من يتعاطف معهم أو من يتوسل السلطة كي تعفو عنهم، لأنهم ليسوا في موقف ضعف أو هزيمة. نحن (المتفرجين والمستمعين، الشعب الكريم) في حاجة إلى من يتعاطف معنا أمام تسونامي (الخوف من الحرية) الذي أغرقنا في الصمت والتفاهة واللامبالاة، نحن من ينبغي أن يُرثى حالُه عندما نفقد الشغف فتتشابه أيامنا وتتساوى الأضداد: الحق والظلم، القبح والجمال، الإسفاف والرفعة.
لقد اختلطت أمامنا السبل وكلها تؤدي إلى طريق واحد لا يفضي إلى شيء..