رحم الله "أبو اللطف" والعزاء لشعبه

الفلسطينيون سيتذكرونه على طريقتهم، والسوريون سيتذكرونه من نافذة المافيا الرسمية في بلادهم: رحيل المناضل الفلسطيني العتيق «فاروق القدومي» ـ مكتشف عمليات بيع النفط السوري والعراقي إلى مصفاة حيفا الإسرائيلية عبر ميناء بانياس السوري أواخر التسعينيات. (*)

«عرفات» كلّف «القدومي» بإبلاغ «الأسد» واتخذ القضية ذريعة للمصالحة، والقضاء العسكري السوري حاكم 12 ضابط وعنصر مخابرات سراً على خلفية القضية، و رئيس العصابة (العميد «محمد شبيب») «يُقتل» في سجن المزة في ظروف غامضة، أما «علي دوبا» و شقيقه فقد خرجا منها - كالعادة - كما تخرج الشعرة من العجين!

في مثل هذه الأيام (لا أذكر اليوم على وجه الدقة) من العام 1999، مات رئيس فرع المخابرات العسكرية في طرطوس العميد "محمد شبيب" في سجن المزة العسكري في "ظروف غامضة"، رغم أنه من المرجح أنه "قتل بطريقة ما بأمر مباشر من الأسد" الأب. وكان "شبيب"، المنحدر من لواء اسكندرون المحتل، شقيق زوجة الشهيد الدكتور "محمد الفاضل"، رئيس جامعة دمشق، الذي اغتاله الأخوان المسلمون في العام 1977.

بدأت القصة قبل ذلك بأسابيع، فليس هناك معلومات تفصيلية متوفرة. فذات يوم من صيف ذلك العام ، ورغم القطيعة بين "ياسر عرفات" و"حافظ الأسد" على خلفية تداعيات "اتفاق أوسلو" الكارثي، أرسل الأول إلى الثاني مبعوثاً سرياً هو "فارق القدومي"(أبو اللطف) ، رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، وبرفقته – إن لم تخني الذاكرة - ضابط أمن فلسطيني من "الحرس الرئاسي" في رام الله يدعى "فيصل أبو شرخ".

كانت مهمة الوفد إبلاغ "الأسد" الرسالة المختصرة التالية: علمت الأجهزة الأمنية الفلسطينية عن طريق أخ فلسطيني مهندس من مناطق 1948 يعمل في ميناء حيفا المحتلة أن هناك بواخر تنقل النفط من ميناء بانياس النفطي السوري إلى مصفاة حيفا الإسرائيلية يومياً تقريباً ومنذ حوالي عامين. وهذه البواخر تحمل العلم اليوناني وتعود ملكيتها لرجل أعمال سوري / يوناني يدعى "طلال الزين". وقد تأكدت أجهزتنا الأمنية من صحة المعلومات. وإن الأخ "أبو عمار"، وبغض النظر عن الخلافات مع الشقيقة سوريا، رأى أن من واجبه القومي و واجبه تجاه أمن الشقيقة سوريا أن يبلغ السيد الرئيس حالاً بالقضية."

لم يكن اسم "طلال الزين" غريباً عن النظام في دمشق، فهو صاحب شركة "نفتومار لتجارة وشحن النفط NAFTOMAR SHIPPING AND TRADING CO" التي تتخذ من مدينة "فولا" اليونانية مقراً لها. وهو، إلى ذلك، شريك مافيات النظام الأمني السوري – اللبناني المشترك في لبنان بعد "اتفاق الطائف"، لاسيما وليد جنبلاط الذي يعتبر أكبر شريك له في لبنان، وربما في الشرق الأوسط كله، ويشتركان معاً في احتكار تجارة الغاز المنزلي في لبنان. ومع ذلك فإن "طلال الزين" شخصية "غامضة" يعمل بعيداً عن الأضواء أو "Low Profile" كما يقال بالإنكليزية، إلى حد أنه من المستحيل أو شبه المستحيل أن تعثر له على صورة شخصية، باستثناء صورة في شبابه (منشورة على الرابط المرفق)، رغم أنه كان يعمل في هذا المجال منذ حوالي ثلاثين عاماً أو أكثر قبل هذه الواقعة، ويعتبر أحد كبار تجار وناقلي الغاز في حوض المتوسط والشرق الأوسط!!

كانت رسالة عرفات موضع شك قوي من قبل حافظ الأسد، رغم التاريخ العريق الذي تتزاوج فيه الممارسات المافيوية بالتجسس أو التعامل مع إسرائيل وغيرها. فقد اعتقد في البداية أن الأمر مفبرك من قبل عرفات كذريعة لفتح صفحة جديدة مع دمشق أو حتى لتسجيل هدف في المرمى السوري، وكان له سوابق في ذلك. ولأن كل ما يتعلق بإسرائيل يجري تكليف شعبة المخابرات العسكرية به، كلف الأسد رئيس الشعبة "علي دوبا" بالتحقيق في الأمر!

لم يكن "علي دوبا" بحاجة إلى تحقيق، فقد كان على علم منذ فترة أن شقيقه "محمد عيسى دوبا" ، مدير "الشركة السورية لتخزين وتوزيع المواد البترولية/ محروقات" في طرطوس، التابعة لوزارة النفط، هو أحد أركان عصابة بيع النفط إلى إسرائيل!

كان المقدم "محمد عيسى دوبا" رئيساً لأحد فروع الأجهزة الأمنية في حلب أواخر السبعينيات حين نشبت المواجهات بين السلطة والأخوان المسلمين المدعومين من تركيا والعراق والأردن والمخابرات الأميركية وبعض الجهات الأمنية في الحلف لأطلسي في بروكسل. وساهم يومها، من موقعه هذا، في تهريب آلاف المواطنين اليهود السوريين من خلال الشبكة التي كانت تديرها عميلة "الموساد" الشهيرة وأستاذة الموسيقا الكندية "جوديت فيلد كارJudith Feld Carr" (حصلتْ لاحقاً على وسام إسرائيل الأكبر من الرئيس "شمعون بيريز" تقديراً لمهمتها في سوريا، التي استمرت طوال 23 عاماً، وأطلق عليها لقب "أستير الثانية" أو "منقذة الشعب اليهودي" في خطاب "بيريز" التكريمي لها في الكنيست!!) .وبسبب جبن "محمد عيسى دوبا" وخوفه آنذاك من الاغتيال كغيره، طلب إحالته على التقاعد المبكر حين كان لم يزل برتبة مقدم، وجرى تعيينه على رأس الشركة المذكورة التي كانت يوماً ما خلال الستينيات تابعة لـ"شركة نفط العراق البريطانيةIPC". أما قصة النفط المباع لإسرائيل فبدأت في العام 1997.

ففي ذلك العام حصل تطبيع تحت الطاولة بين النظام العراقي ودمشق، بعد 17 سنة من القطيعة، بسبب الحاجة إلى التخادم المتبادل. فقد كان النظام العراقي بحاجة لتهريب النفط وبيعه بعيداً عن أعين الرقابة الدولية والحصار الإجرامي للعراق، بينما كانت سوريا (والأحرى نظامها) بحاجة إلى مصدر دخل إضافي، فضلاً عن النفط بحد ذاته. وهكذا أبرِم اتفاق سري بين دمشق وبغداد على إعادة تأهيل أنبوب نفط "كركوك - حمص - بانياس" (المعطل منذ العام 1980) وضخ النفط سراً فيه، على أن يقوم النظام في دمشق ببيعه لصالح بغداد مقابل حصة معينة لسوريا (وثائق الأمم المتحدة التي كشف عنها بعد سقوط النظام العراقي فيها الكثير من التفاصيل عن قصة إعادة التأهيل والتشغيل السري لأنبوب النفط المذكور).

كان قسم من النفط يكرر في مصفاتي حمص وبانياس لصالح السوق الداخلية، والقسم الآخر يصدر تهريباً على شكل خام إلى الأسواق الخارجية. وحين بدأ تشغيل الأنبوب سراً، تفتق دماغ "محمد عيسى دوبا" عن فكرة جهنمية هي سرقة النفط عبر "تفريعة" جانبية، فنسّق الأمر مع العميد "محمد شبيب" لتنفيذ الفكرة، باعتبار فرع المخابرات العسكرية في طرطوس هو "السلطة الأمنية العليا" في المحافظة. وخلال فترة قصيرة كان الأنبوب جاهزاً. وهناك، قبل دخول الأنبوب إلى مصفاة بانياس ببضعة مئات من الأمتار، جرى أخذ "تفريعة" منه بقطر 24 سم وتمديدها وتعويمها على "فواشات" إلى عرض البحر لتتمكن الناقلات من التحميل تحت حراسة فرع المخابرات العسكرية في طرطوس. وبالتزامن مع ذلك جرى الاتصال مع "طلال الزين" من أجل تأمين البواخر. ولأنه متخصص بنقل الغاز أصلاً، لم يكن أسطوله الضخم يتوفر يومها على بواخر متخصصة بنقل النفط ، فاستأجر عدداً منها من إحدى الشركات اليونانية، وبدأ شحن النفط إلى مصفاة حيفا ... "وقال الكريم خود.. هذا من فضل ربي"!

كانت العائدات تحول إلى "البنك اللبناني – الفرنسيSBA" في باريس، الذي يملكه "صفا/ مصطفى جانودي"، أحد أبرز شركاء مافيات النظام.

حين كُلف علي دوبا بالتحقيق وقع في "حيص بيص"، فأخوه على رأس العصابة بعلمه المسبق، وربما كان هو شخصياً ، أو من المرجح بحكم طبيعة الأمور، أن يكون شريكاً، لكن لا توجد أدلة قاطعة على ذلك سوى "القرائن الظرفية" كما يقال بلغة القانون(1). وهكذا جرى توجيه الاتهام لشبكة من ضباط المخابرات العسكرية، على رأسهم "محمد شبيب" وضابط آخر برتبة عقيد يدعى "ابراهيم بو نظام"، بالإضافة إلى مساعد أول يدعى "عبد الكريم محفوض" كان "وكيل" أعمال "علي دوبا" في الساحل السوري ورئيس مفرزة المخابرات العسكرية في بانياس.

أحيلت القضية سراً إلى المحكمة الميدانية العسكرية الأولى في القضاء العسكري في العام 1999، وكُلف بها قاضي التحقيق ورئيس المحكمة (والمدعي العام العسكري لاحقاً)، اللواء "سليمان الخطيب"، فأصدر أحكاماً مخففة ومعلبة بالسجن على 12 ضابطاً وعنصراً متهماً تتراوح ما بين 5 و 12 عاماً فقط ، بدلاً من الشنق أو الخوزقة أو السحل، بينما مات أو قتل "محمد شبيب" في السجن خلال الفترة نفسها(2). وأما "محمد عيسى دوبا" فخرج من القصة كما تخرج الشعرة من العجين، بينما أصدر حافظ الأسد قراراً بتسريح كاتم أسراره وحارس "الصندوق الأسود" العماد علي دوبا في أيلول/ سبتمبر 1999، على أن يصبح نافذاً اعتباراً من 1 كانون الثاني/يناير 2000. وجرى تخريج القرار رسمياً على أنه "سُرّح بقوة القانون بعد بلوغه سن التقاعد"!

رحم الله "أبو اللطف" والعزاء لشعبه.


الهوامش
(1) ـ تمكن أحد الصحفيين الأصدقاء الذين كانوا يتابعون القصة من الاطلاع على سجلات نزلاء "فندق رويال مونصو Royal Monceau" في باريس الذي يملكه المهندس "عثمان العائدي"، مالك شبكة فنادق الشام الشهيرة في سوريا، ورئيس منظمة السياحة الأورومتوسطية آنذاك، وأحد القنوات السرية في المفاوضات السورية – الإسرائيلية غير المباشرة، وأحد أذناب إسرائيل في سوريا والشرق الأوسط، وشريك رفيق الحريري في "بنك البحر المتوسط" و "مشروع جسر السلام في الجولان" للشراكة الاقتصادية المستقبلية مع إسرائيل، الذي أعد على خلفية "مؤتمر مدريد"1991. وتبين أن "علي دوبا" كان نزيلاً في الفندق المذكور بتاريخ 28 و 29 أيلول 1999، فضلاً عن مدير العمليات في مصفاة حيفا آنذاك "يارون نيمرود Yaron Nimrod". ولكن لا يوجد دليل قطعي على أنهما التقيا معاً، فربما كان نزولهما في الفندق نفسه وفي الفترة نفسها مجرد مصادفة.
(2) ـ كان ابن أخته "الدكتور نبراس محمد الفاضل"، الذي يحمل الجنسية الفرنسية والذي سيصبح لاحقاً مستشاراً اقتصادياً لبشار الأسد خلال الفترة 2003 – 2005، يدير حصة خاله "محمد شبيب" من النفط المباع إلى إسرائيل. وفي العام 2011 جاءته "الثورة" ليُكلَّف من قبل المخابرات الفرنسية بأن يكون خزمتشياً عند رئيس "المجلس الوطني السوري" برهان غليون، مهمته حمل الموبايل الخاص به والرد على مكالماته الهاتفية وتنظيم مواعيده وفتح باب السيارة له… ولعق حذائه عند الضرورة! وتشكل حالة "نبراس الفاضل" نموذجاً صارخاً عن الحالات التي قد يخلّف فيها النبلاءُ الأطهار، أمثال الشهيد الكبير "محمد الفاضل"، أبناءً ينتمون إلى سلالات الكلاب والخنازير وليس إلى آبائهم.
(*) ـ نشرتُ هذه القصة قبل عامين (على الرابط أدناه). ومن أجل الأمانة عليّ أن أشير إلى أن صديقاً قديماً من قيادة "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" في رام الله ، كنت أعرفه منذ أيام إقامته في دمشق خلال الثمانينيات، اتصل بي آنذاك بعد نشر البوست، وقال لي "أبو اللطف (فاروق القدومي) علم بالقصة مباشرة من مصدر عائلي قريب له في فلسطين 1948، وليس من عرفات الذي لم يعلم بها إلا لاحقاً. وبناء على ذلك توجه أبو اللطف إلى دمشق بمبادرة شخصية منه لإبلاغ الأخوة السوريين، بحكم علاقته القديمة معهم كبعثي قديم، وليس كمبعوث من قبل عرفات".
لهذا السبب غيرت عنوان هذا البوست وأنا أعيد نشره اليوم بعد عامين على نشره أول مرة. وبغض النظر عما إذا كان "أبو اللطف" أبلغ دمشق بمبادرة خاصة منه أم أنه كان مبعوثاً من عرفات ، فقد حققت مهمته غايتها الأمنية آنذاك: الكشف عن شبكة من العملاء الاقتصاديين لإسرائيل في أعلى هرم النظام السوري (وهي واحدة من شبكات لا حصر لها ولا تزال تعمل بنشاط وحيوية حتى ساعة نشر هذا البوست، ويتصدر أعضاؤها قيادة جبهة "الممانعة" في سوريا). أما المهمة الأخرى المبتغاة يومها (المصالحة بين عرفات والأسد)، فلا تعنيني، وليس هنا مكان الحديث عنها.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات