ضمير لبنان الذي لم يستطع النظام السوري وعصاباته اللبنانية، ولا أي أحد آخر في الدنيا، لا سيما «آل سعود»، أن ينخر خلية واحدة من خلاياه. ولهذا لم يجد هؤلاء حلاً للتخلص منه ومن ظاهرته، واغتياله سياسياً وإقفال بيته السياسي إلى الأبد، سوى أن يتآمروا عليه مع كلبهم القذر«رفيق الحريري» في أكتوبر من العام 2000.
كان عصياً على أن يُباع أو يُشترى مقابل أنفَس ما في الدنيا. ولم تخطىء بوصلته في أي يوم من الأيام ولو قيد شعرة. فكان وطنياً حتى النخاع؛ حراً بلا حدود؛ عزيز النفس وطاهر القلب واليد كما لا يمكن للطهارة إلا أن تكون ؛ ومنحازاً بكل ما أوتي من قوة إلى مقاومة المشروع الصهيوني بقدر مقاومته لصهاينة الداخل ولصوصه.
للأسف كان رائداً بلا أتباع و صراخاً في البرية أو «صوتاً بلا صدى»، كما عنوان أحد كتبه تماماً.
باعه «سنّة» لبنان، يوم كانوا وكان اللبنانيون بأمس الحاجة إليه، مقابل أكياس دراهم «الحريري» وكراتين إعاشته وقناني زيته الفاسد الملوث بالغاز والكاز، فخلا قنديلهم من الزيت بعد ذلك ...وانطفأ إلى الأبد.
كان وردة باسقة تنشر عطرها رغماً عن أنف الطبيعة ... وسط مزبلة لبنانية مترامية الأطراف.
النتيجة الوحيدة المؤكدة لرد اليوم: دماء «فؤاد شكر» لحقت بدماء «عماد مغنية»، وحزبهما مردوع .. مرودع حتى ينقطع النفس، ولكن هذا ليس ذنبه وحده!
كنت أشتم رائحة رد «حزب الله» منذ ساعة متأخرة مساء أمس، حين قرأت خبراً عن وضع سلاح الجو الإسرائيلي في جاهزيته القصوى، و وصول رئيس الأركان الأميركي بشكل طارىء إلى المستعمرة الأميركية-الإسرائيلية الأردنية للاجتماع مع الجاسوس «يوسف الحنيطي»، رئيس أركان الميليشيا الهاشمية. ولهذا لم أنم. ومن يعد إلى توقيت نشري البوست الأول عن الرد يلاحظ أنه كان حوالي الرابعة فجراً بتوقيت لندن حين بدأ الهجوم الجوي الإسرائيلي الاستباقي.
حين سمعت عبارة «رد أولي» في البيان الأولي للحزب، اعتقدت أن ما حصل كان مجرد موجة أولى. ولكن حين أوعزت سلطات الاحتلال بإعادة فتح المجال الجوي لفلسطين المحتلة و«مطار جورج حبش»(المسمى «مطار بن غوريون») أمام حركة الطيران المدني، أدركت أن كل شيء انتهى، وأن دماء «فؤاد شكر» في ضاحية بيروت الجنوبية لحقت بدماء «عماد مغنية» في ضاحية كفر سوسة الدمشقية!
اغتيل «عماد مغنية» قبل أكثر من 16 عاماً، ومع ذلك عجز «الحزب» حتى اليوم عن الانتقام له من خلال استهداف رتبة أو هدف مقابل من المستوى نفسه، كما توعد مراراً. والشيء الوحيد الذي تمكن من فعله هو إعدام العميد الجاسوس «محمد سليمان» رئيس المكتب العسكري الخاص لدى «بشار الأسد». ولكن هذا لم يكن رداً، لأن «سليمان» كان مجرد «شريك لوجستي» في الجريمة وأداة لتنفيذ صفقة سورية - أميركية، فضلاً عن أن الإعدام حصل تحت الطاولة ودون تبنيه رسمياً.
والآن يتكرر الأمر. فبعد التهويل بحجم الرد، ليظهر على هذا النحو المتواضع، يصبح واضحاً ومؤكداً أن الحزب مردوع، وليس عاجزاً، لأن التطور العسكري والتقني الذي وصل إليه الحزب لا يسمح بالقول إنه عاجز. ولكن لماذا هو مردوع؟ هذا هو السؤال أو أبو الأسئلة كلها.
لألف سبب وسبب، ويكفي أن نذكر ما يلي (دون أهمية للترتيب):
ـ أولاً وقبل كل شيء هو مردوع بـمصير «غزة» وبشخص «نتنياهو» بالذات. فمن رأى كيف مُسح «قطاع غزة» عن وجه الأرض ، حجراً وبشراً، بتواطؤ عالمي كامل، وتواطؤ عربي شبه كامل، ومن أدرك أنه أمام نسخة معاصرة من شخصيتي «داود» و«يشوع/ يوشع بن نون» التوراتيين الإجراميتين، من حقه أن يخاف على شعبه ومصير هذا الشعب؛
ـ ثانياً هو مردوع بأن نصف شعبه على الأقل (والكثير من بيئته نفسها) إما عملاء وجواسيس فاعلون أو عملاء وجواسيس كامنون. وهؤلاء مجرد جيش احتياطي إسرائيلي مستعد وجاهز لإطلاق النار عليه من الخلف؛
ـ ثالثاً هو مردوع بخاصرته السورية، الرخوة لوجستياً وأمنياً إلى أبعد الحدود وأكثر من أي وقت مضى، وبنظام وكيل لجميع أجهزة الاستخبارات في العالم، بما في ذلك الموساد الإسرائيلي. فداخل هذا النظام (بسبب تاريخه الخاص كمولود مسخ في رِكاب المخابرات البريطانية والسعودية منذ أكثر من نصف قرن، وبسبب فساده الذي لا نظير له في العالم، ربما باستثناء العراق)، لا يمكن لمعلومة أمنية واحدة أن تصمد فيه أكثر من ساعة واحدة. وما الغارات الإسرائيلية التي قاربت الخمسمئة منذ العام 2015، والتي يحصل كل منها بناء على معلومات ساخنة تصل من دمشق إلى تل أبيب في الحال، سوى مجرد دليل بسيط على ذلك. هذا إذا وضعنا جانباً حقيقة لا مثيل لها، وهي أن كبار رؤوس النظام جواسيس رسميون (كـ«علي مملوك» الذي هرّب طيار وطائرة الميغ 23 في العام 1989إلى إسرائيل،و «يوسف مرعي» ضابط أمن مركز البحوث العلمية، و سيدة البقدونس والشعير والكرسنة «أسماء الأخرس» نفسها، التي تعمل لدى المخابرات البريطانية منذ ثلاثين عاماً على الأقل)؛
ـ رابعاً هو مردوع بمحيط عربي وإسلامي أكثر إسرائيليةً و صهيونيةً من إسرائيل نفسها. فما يفعله هذا المحيط (منذ أكتوبر الماضي على الأقل)، لا نظير له في أي وضع سابق في التاريخ (وأزعم أني مطلع جيد على التاريخ وحروبه، منذ العصرين الحديدي والبرونزي حتى اليوم!)؛
ـ خامساً هو مردوع بالوضع السريالي الكارثي لبلده نفسه وبالنظام الطائفي القذر في هذا البلد(علماً بأن الحزب نفسه يتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية عن ذلك حين فشل طوال أربعة عقود في إدراك حقيقة أنه «لاهوت تحرير شيعي»، وبالتالي عليه العمل على بناء نظام سياسي – اجتماعي يتمتع بأكبر قدر ممكن من العدالة فيكون «قرشه الأبيض في يومه الأسود»، و احتياطيه الاستراتيجي حين يحتاج إلى جبهة داخلية أهم من الصواريخ والأنفاق أو لا تقلّ أهمية عنهما، بدلاً من التكيف مع هذا النظام والتعايش معه وبشروطه . لكنه، كما الاتحاد السوفييتي والأنظمة «الوطنية» الشبيهة، اعتقدَ أن الصواريخ كافية وحدها لتحقيق النصر على العدو، دون أن يدرك أن الصاروخ دون رغيف خبز ودولة عدالة لن يكون أكثر من خردة حديد في نهاية المطاف، وأنه لا يمكن مواجهة العدو في ظل وجود نظام من العملاء والجواسيس تديره حكومات لا نظير لها سوى عصابات قطاع الطرق)؛
ـ سادساً، هو مردوع بحقيقة أنه يواجه ليس إسرائيل وجبروتها وحدهما فقط، بل جبروت الحلف الأطلسي كله، وعملائه العرب والمسلمين كلهم، بدليل هذا الانتشار غير المسبوق للبوارج وحاملات الطائرات والغواصات النووية في جميع أصقاع البر والبحر والجو التي تزنّر المنطقة من جهاتها الست وليس جهاتها الأربع فقط، والتي جاءت كلها لحماية إسرائيل والدفاع عنها، كما قيل رسمياً من قبل حكومات الأطلسي.
في الخلاصة : حين لم يتجرأ الحزب – للأسباب المذكورة وغيرها الكثير - على استهداف تل أبيب، كرد على استهداف الضاحية البيروتية ( وهذا هو بيت القصيد في القضية، وليس اغتيال "فؤاد شكر"، رغم أهميته)، فإنه لم يفعل سوى الاعتراف ضمناً بأن "نتنياهو" كرّس «قواعد اشتباك» جديدة ، وربما ... «نهائية»! و وفق هذه القواعد، سيكون بإمكان إسرائيل أن تدمر من الآن فصاعداً أي هدف تريده حتى في قلب بيروت، دون أن يكون هناك رد موازٍ.
أعرف أن هذا سيحبط الناس، وأعرف أن المرء حين يكون أداة للتغيير وتبصير الناس، غالباً ما يُنظر إليه من قبلهم كأداة للخيانة. ولكن ما أعرفه أكثر هو أنني لم أعتد الكذب على الناس ولا خداعهم أو تضليلهم، وأن أقول ما أعتبره الحقيقة، مهما كانت النتيجة والعواقب. وحين حصل العدوان على الضاحية واغتيال «شكر»، قلت ما حرفيته «أنتظر رد الحزب، حتى لو طال كثيراً. وعندها سأقول رأيي. وكل رد لا يستهدف تل أبيب نفسها، لا يعوّل عليه». وها أنذا وفيت بوعدي.
شيء واحد يجب أن يُختم به: أنا وأمثالي فقط من يحق له قول ما قلته، بل وأقسى منه. أما الجواسيس والعملاء والطائفيون القذرون، ومعهم شبيحة وكلاب نظام العملاء والجواسيس في دمشق، ومعارضو هذا النظام (ماركة 2011)، فلهم حق واحد فقط لا غير : أن يضع كل واحد منهم صرماية أو كومة خراء في حلقه ويخرس؛ فالولد الشخّاخ لا يحق له أن ينام في سرير واحد بين أمه وأبيه.