كان جون بول سارتر يؤكد أن التعبير الحقيقي عن الحرية إنما يكمن في قول" لا "في وجه الاستبداد والطغيان و أن فرنسا لم تكن يوما حرة مثل ما كانت وهي تحت" الاحتلال الألماني." لأن الثوار الحقيقين كانوا يقاومون ذاك الاحتلال مقاومة غاضبة رافضة.
تذكرت قولة سارتر هذه وأنا أتابع اليوم الساحة الثقافية وارصد ما يقال فيها وما لا يقال. فأتردد بين الحزن والغضب .
أجد مثالا صارخا لفراغ الساحة من كثير من المثقفين من جامعيين وكتاب وفنانين اما مهرجاناتنا فقد تفرغت او تكاد الى حفلات الصخب حين اكتشف فنانونا انه لم يبق غير المزود والبندير لاستجلاب الجماهير . ولا اعتراض لنا في المطلق على هذا فالناس في حاجة أيضا للفرح والمتعة ولكن هل يكفي الرقص والغناء بلا موقف ولا روح ليكون لنا فن وتكون لنا ثقافة ؟.. انها صورة بائسة من الخوف من الانخراط في ما تعيشه البلاد من ازمة خطيرة لا احد يدري مآلاتها .
في هذا الجو من الخوف الذي عاد اليه كثير من نخبتنا اختفى كثير من المثقفين الذين كانوا يملاون الدنيا بضجيجهم .. اختفوا غصبا او باختيارهم . كان لهم في الماضي موقف و راي في كل ما هب ودب ..يتحدثون في السياسة وفي الاقتصاد والثقافة بل يصبحون خبراء حتى في الرياضة أيضا . كانوا يعيشون في جحورهم سنوات الجمر قبل الثورة وكانوا يخشون فتح أقواهم الا لطبيب الاسنان . يفضلون الصمت على الكلام الذي لا يتقنه غير عشاق الحرية الحقيقيين؟.
ما كان لهم رأي حول ثقافة الحرية وحقوق الانسان . ما استمعنا يوما إلى أصواتهم.. ما قرأنا لهم حرفا حين كان الكلام بثمن غال . ثم رخص الكلام في القوس الذي فتحته الثورة فاخرجوا رؤوسهم حين صار الكلام كالبضاعة الرخيصة يسومها المفلسون في الزمن السهل.
اما اليوم وقد ارتفع ثمن الكلام وازدادت كلفته مرة أخرى واصبح السياسيون والمفكرون والمغنون والمدونون من الاحرار وهم قلائل تحت طائلة المحاسبة القضائية الى جانب وجود مناخ يسوده الترهيب وإصدار الأحكام السالبة للحرية في حق صحفيين وإعلاميين ومدوّنين بحسب ما ورد في البيان الأخير لنقابة الصحافيين فضلا عن مراقبة كل ما يكتب ويقال بل طال المنع حتى الاعمال الدرامية مثلما وقع لمسرحية" اخر البحر" لفاضل الجعايبي ومنعها في مهرجان الحمامات الدولي بتعلة قضايا أخلاقية لا صلة لها لا بالفن ولا بالثقافة .
عاد الكثير ممن كنا نحسبهم من المثقفين الشجعان الاحرار إلى جحورهم في انتظار انقشاع السحب وعودة الصحو فهم لا يقدرون على الرياح والانواء.
يقول الإعلامي زياد كريشان في مقال له بعنوان " ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس خلال عشرية الانتقال الديمقراطي: أيـن ذهبوا ؟ " ! لو أردنا ان نحصي كل هولاء «المؤثرين» للمشهد خلال العقد الأول للثورة والذين غابت عنا آراؤهم وصورهم ومواقفهم وطموحاتهم لأصابنا الذهول..فنحن نتحدث عن شخصيات هامة وهامة جدا.. بعضها شغل مناصب متقدمة في الدولة، بل المناصب الأولى، وبعضها أسس أحزابا كانت تطمح للوصول إلى الحكم، والبعض الاخر كان يمني النفس بالوصول إلى رئاسة الدولة، وكانوا يقولون لنا أن لديهم رؤية لتونس ومستقبلها ومستقبل أجيالها وأنهم وطنيون إلى النخاع وأنهم عازمون على الاسهام في النهوض بالبلاد و.. و.. و" انتهى الكلام.
لن نتساءل مثل زياد كريشان عن السياسيين " أين ذهبوا؟ " لانهم في الواقع لم يذهبوا الى مكان بعيد بل عادوا الى قواعدهم القريبة جدا ، المحصنة بالخوف تلك التي كانوا يسكنونها قبل الانتقال الديمقراطي. هؤلاء لا يهمنا أمرهم.
ولكن تهمنا منزلة المثقفين من جامعيين و كتاب وشعراء ومغنين ...هؤلاء نتساءل عنهم اليوم.. أين ذهبوا ؟ أين مقالاتهم وكتاباتهم وهم النخبة التي يستنير بعقولهم عامة الناس؟ .
عجبا صمت أغلبهم. وبالأمس كان للكثير من هؤلاء أقلام جبارة والسنة من لهب . ما كانت هذه الجماعة تجد ولو ذرة من الجرأة لتعبر عن آرائها لو لم تمكنها الثورة من ذلك . لأنها جماعات بلا رأي. ولا ذاكرة..
ولو كان لها رأي لكان صامدا لا ينثني حين كان الصمود يرسل بفرسانه إلى المنافي أو السجون أو يعرضهم إلى بطش السلطان وقد طغى وتجبر في الماضي القريب .
هكذا لم يبق في الساحة غير عدد قليل من الأقلام الحرة وكثير من أولئك الذين احترفوا المديح كما نرى في بعض قنواتنا الرسمية وغير الرسمية ولا فائدة من ذكر الأسماء فالجميع يعرفهم اسما وصورة أو من أولئك الذين اختاروا الانعزال والصمت.
المؤسف ألا يعكر صفو بعض المثقفين لدينا شيء ، فيستبعدون انفسهم من أي صراع. في حين ان المثقف لا يمكن ان يكون الا معارضا فعينه على المستقبل في حين ان السياسي لا يهمه غير الراهن . وقديما قال زولا "إني اتهم" في قضية دريفوس الشهيرة فدفع ثمن صرخته، بان حكم عليه بالسجن من اجل التشهير ولكنه اختار طريق المنفى في بريطانيا لمواصلة الاصداع برأيه.
ولعله منذ هذه الصرخة نشأ المثقف من رحم المعارضة ومن صلب قول" لا" لأنه جعل من فكره أداة يومية للتغيير والمقاومة وليس فقط للتفكير المتأمل الموضوع في مجلدات ضخمة لا يقرأها غير المتخصصين ..
ربما يبدأ الإبداع الفكري عندما يعيد المثقف النظر في ما يقوله الكبار المتنفذون الذين يتحاشى بعض أصحاب البرج العاجي والسلامة الاحتكاك بهم أو عندما يعيد النظر في ما يردده المثقفون أنفسهم عن أنفسهم وعن الآخرين.
إن الأفكار لا تباع ولا تشترى في سوق السياسة الآمنة حيث لا ضرر ولا ضرار..ولا تدور على نفسها لتقول لنا بأقل عمقا ما قاله آخرون منذ عشرات القرون وهي مطمئنة إلى ما تقول. ولكنها تخلق نفسها. بنفسها. ويخلقها مقامها التاريخي.
لا يسير المثقف في سوق الكساد خوفا او بحثا عن السلامة . فإذا كان المثقف لم يكن أبدا حاملا للحقيقة وان ادعى أحيانا انه وصي عليها فإنه ما عدنا اليوم نفهم صمته بتعلة التضييق عليه في عصر مكنت فيه الوسائط الحديثة الكل من الكلام والتعبير... إننا أحيانا يجب أن نلمس العيون حتى نتمكن من فهم طبيعة "رمدها" ولكن ذلك يتطلب شجاعة من لا يخشى من العدوى…
سؤال أخير: ما الفرق بين أن يطمئن الشعب إلى "حقائقه الأسطورية "التي بنشرها السياسي الشعبوي أو أن يطمئن المثقف إلى برجه العاجي بحثا عن السلامة ؟ أليس هو الأخر لا يقل عامية عن عامة الناس ؟