الدكتور عبد اللطيف المكّي : لا تحدّثهم عن الخلافات. حدّثهم عن الأمل.

أثار ترشّح الدكتور عبد اللطيف المكي للانتخابات الرئاسية جدلا كبيرا في أوساط أبناء حركة النهضة وأنصارها. والسبب الرئيسي لهذا السجال هو استقالته من الحركة، حيث اعتبر جزء محترم من أبناء النهضة أنّ استقالته جاءت في وقت تمرّ فيه الحركة بمحنة عصيبة. وأنّه ما كان له أن يتخلّى عنها وينسحب ساعة الشدّة. وذهب بعض الإخوة إلى حدّ اعتبار قرار الاستقالة خيانةً لا تُغتفر وفرارًا لا يليق بقيادي. وأنّه لا يمكن أن يحظى، تبعًا ذلك، بثقتنا، لا تزكيةً ولا تصويتًا.

أودّ أن أبدي الملاحظات التالية:

١- ردّ فعل الإخوة الغاضبين من قرار استقالة الدكتور عبد اللطيف المكّي مفهوم وله ما يبرّره، خاصة وأن الحركة كانت حينها، وما زالت إلى الآن، تمرّ بمحنة شديدة. كانت تلك اللحظة تقتضي أن يُظهر فيها الجميع، وخاصة الصف القيادي، الثبات في الموقع وفاءً والتزامًا. وأن لا يُسلموا الحركة للانقلاب والاستئصاليين من حوله. فالقيادي قدوة يتقدم في المكره ويعفّ في المنشط. ولهذا فإنّ موقف الإخوة المستنكرين لقرار الاستقالة يصدر عن صفاء وجداني تام ويعبّر عن إحساس سليم وعن مبدئية طاهرة لم تلوّثها حسابات السياسة. وهم محقّون في إبداء رفضهم لقرار الخروج، ولا يجوز مقابلة موقفهم ذاك بالاستهجان، ومع ذلك:

٢ - فإنّ الاستقالة من الحركة لم تكن فرارًا من ساحات النضال. ولو كانت كذلك لما وجدنا الأخ عبد اللطيف حاضرا في المقدمة في كل المحطات النضالية، شأنه في ذلك شأن أبناء النهضة المناضلين في كل أنحاء الوطن. كان حاضرًا في جميع المناسبات دون كلَلٍ ولا توقف ولا غياب. وهذا أمر يحسب له ويعبّر عن التزام وثبات على مبدأ مقاومة الظلم الذي جمعنا كلنا. والعبرة كل العبرة هي أن الوفاء للفكرة والقيمة يرجح على الوفاء للوعاء التنظيمي الذي يحملها أو للعنوان السياسي الحزبي الذي يمثّلها.

٣ - الاستقالة كانت نتيجة تراكمات كبيرة من الخلافات الداخلية. خلافات دامت سنوات طويلة. ولم يفلح الجميع، من هذا الطرف وذاك، في إيجاد حلّ لها. وسواء كان الإخفاق في التوصّل الى حلّ تقصيرا من الاخوة المستقيلين أو قصورًا لاستعصاء الخلافات عن الحلّ فإنّ النتيجة واحدة. وليس هذا مجال التطرق إلى تلك الخلافات وعرض حيثياتها، ولكن:

٤ - لو علم الاخوة المحترمون طبيعتها واطلعوا على تفاصيلها ومساراتها والجهود التي بُذلت لاحتوائها وتجاوزها، لو علموا كل ذلك لتفهموا موقف الاخوة المستقيلين والتمسوا لهم الأعذار ولاعتبروا، ربّما، أنّ استقالتهم تأخّرت كثيرا. وأنّ قرار الانسحاب من الحركة كان القرار الأسلم وقتها. المغزى من كلّ ذلك هو ضرورة أن يعرف الاخوة مواضيع الخلاف ويطلعوا على المواقف بهدوء وتؤدة، بعيدا عن ضجيج الغضب الذي يحجب الحقيقة واشتعال الأنفس ساعة السجال. بعيدا عن الروايات التي تحرّف بقصد وبغير قصد. بعيدًا عن النقل غير الأمين للمواقف والكلام والتصريحات التي تنال من الحقيقة. فالإنصاف يقتضي التريّث في إصدار الأحكام. ومن المؤكّد أن تتاح في المستقبل فرصة للحوار الهادئ لفهم ما جرى.

٥ - الانسحاب من الحركة لا يعبّر بالضرورة عن الخيانة. والبقاء فيها لا يعبّر بالضرورة عن الوفاء. أقول "بالضرورة"، فقد يكون الأمر أحيانا كذلك. وأؤكد على هذا المعنى. فالربط الآلي بين الاستقالة والخيانة ليس منصفا، شأنه شأن الربط الآلي بين البقاء في الحركة والوفاء. وإنّما كل شيء نسبي. فقد يصدر الموقف المشرّف والمناصر للحركة من شخص غادرها لسبب أو لآخر. وقد تأتي الإساءة والخذلان من آخر ما زال ينتمي إليها وينشط في صفوفها.

٦ - استقالة الأخ عبد اللطيف وبعض الإخوة الآخرين من الحركة لا تجرّدهم من تاريخهم النضالي. ولا من وفائهم للفكرة وانقطاعهم للخير وإخلاصهم للحق الذي استغرق كل حياتهم. ففضْلُهم على الحركة لا يزول ولا يذهب بمغادرتهم لها. كما أنّ بقاء غيرهم فيها لا يعدّ فضيلة ترفعهم عمّن سواهم من رفاق الطريق. الجميع مساهمون في البذل والتضحية ولكل نصيبه من العطاء. ولا ينسى الأصدقاءُ الفضل بينهم. والله هو العدل والحكم لإنصاف الناس.

٧ - كتبتُ مرة تدوينةً بمناسبة جمع التزكيات، خاطبت فيها المترشحين للانتخابات الرئاسية واستشهدتُ بالحديث النبوي الشريف: "اطلبوا حوائجكم بعزّة نفس، فإنّ الأمور تجري بالمقادير." وها أنا أوجّه مجددا نفس المعنى للأخ عبد اللطيف المكي وهو على أبواب خوض غمار تجربة الترشّح ويسعى لاستمالة الناخبين فأقول له الآتي:

"تفهّم الغاضبين منك. اعذرهم. تحمّل ما يلحقك منهم من شدة وقسوة. فهم يفعلون ذلك لأنّهم يشعرون بخيبة وألمٍ بسبب ما أقدمتَ عليه من استقالة. إنهم يشعرون أنّك آذيتهم وقد استأمنوك. إنّهم لا يعلمون ثِقَلَ ووَجَعَ ما حملك على قرار الخروج من الحركة. وقل اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون. لقد انتظروا منك أن تكون للحركة ركنًا شديدا وملاذًا حين كانت تُقصف من كل الجهات. ولكنهم صُدموا بالاستقالة. ولو لا المنزلة الرفيعة التي كانوا يضعونك فيها والتي انتظروا منك بمقتضاها موقفًا يتماشى ورفعتها ورِفعتَك في نفوسهم ما كانوا ليُبدوا ما ظهر لك منهم على أنّه شدّة وتجنٍّ.

أحسِنْ الظنّ بمن خاطبك منهم بحدّة ونَقَدَكَ بشدّة. فعادةً ما يكون اللفظ القاسي دالّا على القلب الحسّاس والصادق. وعادة ما يصدر الخطاب الشديد عن صاحب العزم القوي والحب الدافق. توجّه إليهم وخاطبهم بصدق. لا تحدّثهم عن الخلافات. حدّثهم عن الأمل. عن الحب. عن التعاون. عن الوحدة. عن التفاؤل. عن جمال تونس وثرائها. حدّثهم عمّا يكتنزه الشعب التونسي من إمكانات كبيرة وخيرات عديدة تتجاوز ما تسنّى للإطار التنظيمي المحدود للحركة من ثقافة وفهم. قل لهم إنّ بلادنا أغنى وأثرى معنًى مما تعلّمناه في الحركة. قل لهم إنّ شعبنا أهدانا أثمن ما يوهب: الحرية. فلنحاول استرجاعها. احرص على أن تقنع الجميع بالصدق. واقْنَعْ أنت بالنوع من الرجال الأفذاذ والنساء الحرائر وإِنْ قلَّ عددهم، فالنوع يجلب لك الكثرة العددية. ولا تجري وراء العدد أملاً في الكثرة فتُضيع النّوع ولا تحصل على العدد.

قل للقائمين على حملتك الانتخابية أن يخاطبوا أبناء الحركة وعموم الناس بخفض جناح الذلّ من التواضع والإحسان لأنّ "التودّد نصف العقل" كما تقول العرب قديما.

افعل ذلك وسوف تجد منهم التفهّم والصفح. ومن لم يقتنع وظلّ على موقفه الرافض فاصبر وثابر في مخاطبته. بلّغه حُسن الخطاب وراهن على صفاء وجدانه بعد أن يسكت عنه الغضب. فعموم أبناء الحركة، مثل شعبنا، متسامحون طيّبون."

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات