عزيزي راك…أتمنّى أن تكون بخير، اعتذر عن عدم الكتابة أو الاتّصال فقد أضعت عنوانك و رقم هاتفك و كلّ ما اعلمه أنّك قد تكون هناك على ساحل بحر كريت ،تعصر كلمات غوته لتحوّلها الى رحيق عربي ،أو ترقص رقصة زوربا وحيدا مع مغيب شمس المتوسّط، أو تستلقي على كرسيك الخشبي الدوّاح لتتصفّح كتابك المزدحم بالأحداث و الهزّات ، منذ هولوكوست القرن الماضي ،الّذي تقول عنه أنّه حدث وقع تضخيمه و توظيفه و تقديسه ،إلى هولوكوست القرن الحالي الّذي يقع تجاهله وتبخيسه!
صديقي الكبير،أرجو أن تكون قطعت خطوات أخرى في سبيلك،في رحلة بحثك عن المعنى و الجوهر و الإله المجهول ، فأعلم أنّك تكره الحلول الجاهزة و الإجابات المعلّبة و الوثوقية السّاذجة كرهك لعالم التّفاهة و التوحّش و الجهل المقدّس و القشور الزّائفة.
أكيد ستلتقي سبلنا و ستصبّ في بحر واحد كما التقينا في كون محمّد (صلّى اللّه عليه و سلّم) هو أعظم شخصية إنسانية في التّاريخ المنشور.
صديقي، أيّها الشاعر و الكاتب الصحفي و الرسّام و الإنسان،احتاج الى أن أجالسك مرّة أخرى لنحتسي قهوة عربية سوداء و ننفث دخان نارجيلة بطعم التفّاح و نثرثر ربّما حتّى الصّباح!
أنا لست بخير، لست على ما يرام، وطني الكبير يؤلمني و بيتي الصّغير يطردني و غرفتي اصبحت أشبه بزنزانة،اشتكيت لك حالي منذ أشهر خلال زيارتك الأخيرة ، و قد قلت أنّك أيضا صرت تشعر بالاختناق و تفتقد عبق الياسمين ، و شككنا حينها أنّها ربّما بسبب فقدانك حاسّة الشمّ كمخلّفات لكورونا أصبت بها،لنكتشف جميعا أنّنا لم نعد نشم تلك الرّائحة!
ذكرت لي آخر مرّة زرتنا فيها أنّك صرت تتنفّس هواء ذكّرك بالّذي كنت تتنفّسه في برلين الشرقية قبل سقوط الجدار حينما كنت تعمل مراسلا صحفيا ، و ترى عيونا فقدت لمعانها و رقابا منكسرة كتلك الّتي كنت تشاهدها في بوخاريست قبل اعدام تشاوشسيسكو، و تتساءل بحسرة كيف أمكن لهم أن يقتلوا الحلم و هو جنين في بطن أمّه؟
تناقشنا حينها عن الأسباب الّتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه و تناولنا كيفية التّلاعب بالجماهير و تقنيات التّوجيه و استلاب العقول و نيوكولونيالية إنسان الضفّة الشمالية و مركزيّته المتضخّمة و شهوانيته المتوحّشة الّتي تقابلها قابلية إنسان الضفّة الجنوبية للخضوع و الخنوع.
اذكر أنّه حينما كنّا في خضمّ نقاشنا حول الحرّية و العدالة و الكرامة الإنسانية الّتي يتشدّق بها الغرب و يمنعها عن البقية ليسند مستبدّين يضمنون لهم استمرار استغلالنا و استباحتنا،كنت من حين لآخر تلقي بنظرة على التّلفاز و هو يبثّ نشرة الأخبار و يعرض نشاط الزّعيم،لتتمتم بعد تشخيص سريع لنبرة الصوت و حركات الجسد:" مستبدّ سيكوپاتي،ليكن اللّه في عونكم أيّها التونسيون".
صديقي راك، أظنّ أنّني قد أطلت عليك و حمّلتك همّا أنت في غنى عنه،اعذرني على ذلك،سانتظر قدومك في اكتوبر القادم ،تقول الأرصاد أنّ متغيّرات جوّية قد تحدث ،و قد تأتي الرّياح بالجديد فنتنفّس هواء نقيّا و قد نستعيد حاسة شمّ الياسمين،كثيرا ما تكذب تلك التوقّعات،لكنّه الأمل الّذي قد يولد من رحم الألم و الّذي يجعلنا نستمرّ في هذه الحياة.