في السياسة كما في كثير من شؤون الحياة الأخرى، لا تخضع خياراتنا بالضرورة إلى ثنائية (صواب خطأ)، فالاجتهاد البشري مجال نسبي، ولذلك فإن لكل رأي من الآراء المتعلقة بالانتخابات الرئاسية وجاهتَه بالنظر إلى الأسس التي ينبني عليها. تحت هذه المظلة يمكن مقاربة الموقفين المتناقضين من الانتخابات الرئاسية في تونس: المشاركة والمقاطعة.
مقاطعة الانتخابات موقف سياسي وردة فعل مباشرة إزاء عملية الإقصاء التي استهدفت قيادات سياسية من الحجم الثقيل. ونتيجة منطقية لمناخ عام يسوده التشرذم، فجلّ العائلات السياسية منقسمة ومتذبذبة إزاء ظاهرة قيس سعيّد. والالتقاء عند المقاطعة أيسر بكثير من إبرام تحالفات ولو مؤقتة!
كما تندرج المقاطعة أيضا في خط المعارضة المبدئية لمشروع الرئيس، في إطار (ما بني على باطل فهو باطل)، تكملة لمقاطعة الاستفتاء والانتخابات التشريعية السابقة لأوانها وكل ما أنتجه مسار 25 جويلية السياسي انطلاقا من كونه (انقلابا) افتك السلطة التشريعية من أصحابها الذين أتت بهم صناديق انتخابات 2019. يضاف إلى كل هذه الدوافع موقف مبدئي مما تعتبره النخب خروقات خطيرة طالت العملية الانتخابية ومست نزاهتها بدءا من عدم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية وصولا إلى تغيير القانون الانتخابي.
على الطرف الآخر موقف مختلف يدعو إلى المشاركة بكثافة في هذه الانتخابات لأن شعبية الرئيس الحقيقية ليست ذات قيمة انتخابية، وهو ما يفسر لدى هؤلاء حرص السلطة على إحكام السيطرة بشكل غير مسبوق على هذه الانتخابات في مختلف مراحلها، ولا يهم لدى أصحاب هذا الموقف لمن يتم التصويت طالما أنه لن يكون لفائدة قيس سعيد، بل ويطرح في هذا السياق أيضا الدفع نحو دور ثان لم تضعه السلطة في حسبانها، ويبدو أنها تعمل ما في وسعها لتفاديه. والهدف هنا دفع السلطة إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء إذا لم يكن ممكنا الانتصار عليها.
كأننا هنا أمام رقعة شطرنج يتعين على كل لاعب فيها أن يخطط جيدا لنقلاته وأن يقرأ مسبقا رد فعل اللاعب الآخر إزاء كل نقلة ممكنة قبل القيام بها. وإن كان من الصعب تشبيه الساحة التونسية برقعة الشطرنج لأن لهذه اللعبة قواعدَ يستحيل تغييرها بينما لم تعد لدينا في تونس قواعدُ لا يمكن تغييرها. وأمام هذه الحيرة الانتخابية لا بد أن نتذكر ثلاثة أمور:
أولا: إن هذه الانتخابات ليست من إنجازات مسار 25 جويلية، بل هي امتداد لسياق (الانتقال الديمقراطي) الذي انطلق منذ2011، ويمكن نظريا وعمليا تغيير النظام سلميا وهو الأمر الذي يتفق على ضرورته الفريقان وإن اختلف موقفاهما.
ثانيا: إن الاحتقان الكبير الذي يتميز به المشهد السياسي في تونس راهنا يجعل من التغيير في حدّ ذاته وأيا كانت هوية الرئيس المقبل السياسية فرصة يتنفس خلالها المجتمع بعض الهواء النقي، فرغم أن زين العابدين بن علي كان بكل المقاييس السياسية والفكرية شخصا لا يمكن مقارنته بالزعيم الحبيب بورقيبة فإن المرحلة التي تلت وصوله إلى السلطة في 1987 شهدت انفتاحا سياسيا كبيرا.
ثالثا وأخيرا: إن تغيير الأنظمة السياسية يتمّ عادة بثلاث طرق، فإما الانتخابات وإما الثورات وإما الانقلابات. ومن يدعو إلى المقاطعة ويبدو يائسا جدا من حدوث تغيير في النظام السياسي عبر الانتخابات عليه أن يقدم للناخب بكل وضوح رؤيته للمرحلة القادمة واستراتيجيته المتوقعة لخوض معركة البقاء أو الفناء إزاء سلطة مارست ضده خلال عهدتها الأولى أبشع أشكال الإقصاء.