جميع الشّعوب،جميع الأمم تمجّد أبطالها،تكتب قصصهم تخلّدها و تلقّنها لأجيالها. حتّى تلك الّتي لم تجد أبطالا توجدهم و تنسج لهم سيناريوهات من خيالها.
جميعهم يحفرون في تراثهم بحثا عن البطولات و الملاحم و الأيقونات و يستحضرونها في المناسبات و المراسم و في كتبهم المدرسية و في أسماء شوارعهم و المحطّات و المعالم، جميعهم يصنعون الأيقونات و القدوات و ينحتونها في الذّاكرة الجمعية عبر مناهج التّعليم و المناسبات الوطنية و الأعمال الفنّية و يفرضون احترامها إلى حدّ التقديس.
جميعهم يحترمون أبطالهم أو من يعتبرونهم أبطالهم،من ساهم في بناء الوطن أو الأمّة،من دافع عنه،من مات يقاتل في سبيله،من قاد معركة و استبسل فيها،من أنقذ،من أسعف،من أطعم،من مات تحت التعذيب أو جوعا و لم يخن ،من صنع سلاحا،من اخترق العدوّ و سرّب معلومات عجّلت بالنّصر.
جميعهم يتلقّفون و لو نواة قصّة ليضخّموها و يزيّنوها و يحوّلوها الى أسطورة و ملحمة ملهمة.
جميعهم يفعلون ذلك سوانا نحن! بالرّغم من أنّ تاريخنا مليء بتلك القصص و حاضرنا لحسن حظّنا يتيح لنا مشاهدة البعض منها على المباشر دون الحاجة الى كاتب فذّ يثريها و يهذّبها أو مخرج سينمائي يضخّمها.
قصص حقيقيّة و أبطال حقيقيّون يبرزون من بطن الأرض و من بين الحطام،بعضهم حفاة،بسلاح بسيط من صنعهم يمرّغون أنف أعتى قوّة غاشمة وجدت على ظهر البسيطة،يفعلون ذلك و قد حاصرهم الصّديق قبل العدوّ،و تآمر عليهم الجميع،و مورس فيهم كلّ أنواع القتل.
خدّج و رضّع و أطفال طووا الزّمن فصاروا رجالا، و نساء عفيفات يلقّنّ أشباه الرّجال دروسا في الشّرف و المروءة و الصّمود و الثّبات.
قادة يتصدّرون قوائم الشّهداء، و زعيم يستشهد و هو يقاتل،مقبلا غير مدبر،ليرمي عصاه فيلتقطها الرّماة.
قصص و ملاحم حقيقية و أيقونات أصيلة لا تحتاج للتّهذيب أو التّمتين أو التّضخيم،جاهزة للقراءة و المشاهدة فلا نقرؤها و نغمض العيون و نفتحها لمشاهدة أفلامهم بحثا عن أبطالهم ،من سحقونا و أذلّونا و استوطنوا عقولنا.
هل هي عقدة نقص عميقة و مركّبة أو جلد ذات مرضي لشعوب مصابة بالمازوخية و متلازمة ستوكهولم؟ أم مجموعة من العقد المستفحلة المكبّلة لشعوب أدمنت على الخضوع و الذلّ و تطبّعت به لتبلغ درجة من الهوان و العجز ما تعجز الكلمات عن وصفه؟
شعوب مهزومة،مكسورة،مقهورة،مقموعة،خاضعة،خانعة، راضية بواقعها التّعيس و كأنّه قدر محتوم تستلذّ بما هي فيه و تطلب المزيد.
و الغريب و العجيب أنّ البعض لا يكتفي بالتّجاهل و الصّمت المريب بل يتجاوزه إلى التواطئ و التآمر و المشاركة بالتثبيط و التخذيل و الترذيل و تحميل المقاومة مسؤولية ما يجري من جرائم و إبادة في حقّ الأبرياء ،و كأنّ الطّوفان كان وليد اللّحظة و لم يكن نتيجة عقود من الظّلم و القتل و الاحتلال،و كأنّ على المغتصَب أن يستسلم للمغتصِب و يستمتع بذلك!
لم يكتف المرجفون بذلك بل حاولوا تشويه و تدنيس كلّ تلك القدوات و الأيقونات و الزّعامات الحقيقية الّتي تبرز و تزهر طبيعيّا مقابل تقديس تلك المشوّهة المصطنعة الهجينة المحلّية و المستوردة باسم الدّين و العقلانية و البراغماتية و كلّ العناوين المضلّلة.
أرعبتهم صورة السّنوار، و الزّعماء و هم يستشهدون و النّساء و الأطفال الصّامدون و تلك المقاومة البطولية الأسطورية و ذاك الوعي الّذي فجّره الطّوفان،وعي بأنّ تغيير واقع البؤس و الذلّ و الهزيمة و الانكسار ممكن و بأنّ التحرّر ممكن و بأنّ التحرير كذلك ممكن.
تهافتوا جميعا لكيّ هذا الوعي و مكروا مكرا تزول منه الجبال، و كأنّهم يعتقدون بأنّ بإمكانهم التصدّي لمدّ الطّوفان أو إيقاف عجلة التّاريخ الّذي لم يقرؤوه.
سيكنسهم الطّوفان و ستدعسهم عجلة التّاريخ.