مشاهد حزينة من بلد "البناء والتشييد"

"هنا يباع البنّ خلسة"

الآن

المشهد الأول :

من عاداتي التي دأبت عليها منذ أجرتي الأولى في التعليم في السنوات الثمانين أن أذهب يوم السبت الى السوق المركزية بالعاصمة. تعجبني هناك الروائح الزكية للخضر والغلال وطريقة عرضها وأناشيد الباعة وهم يشهرونها استعذب منظر السمك « الحي » في آخر سوق السمك قبل الدخول الى المنطقة المخصصة لبيع النباتات وهي لم تغادر الماء الا منذ ساعة. أصبحت مع الوقت صديقا للبائع الذي يحتفي بي و يخرج لي أحسن ما عنده من تحت الرف .

مررت منذ اسبوع وأنا متجه الى السوق بنهج إسبانيا. دخلت محلا لبيع القهوة .قيل لي ان ال 100 غرام « بن » تباع ب 4200مليم. استعظمت الثمن .خرجت من المحل ولم أشتر شيئا ..دخلت السوق .ابتعت كمية من السمك . وكما هي عادتي ذهبت الى نهج الدباغين. فقد ولعت منذ صغري بشراء الكتب القديمة أولا من نهج زرقون قبل يتغير منظره . هناك اشتريت أول كتاب لي وأنا في الثالثة او الرابعة عشرة. وكان مقتطفات من ديوان الشاعر العباسي ابن رومي وهو أحب الشعراء القدامى اليّ، الشاعر اللعين الذي يذكرني ببودلير ( كان أحد أساتذتنا الفرنسيين وكان من الفوضويين من اتباع باكونين ينصحنا بالذهاب الى هناك كما كان يحذرنا من الدوران يسارا وانت قادم من نهج قرطاجنة سابقا أو نهج المنجي سليم حاليا أومن ساحة مقهى الدينار الى ذلك المحل الشهير في نهج » السعادة بدينارين » قبل ان يغلق هو أيضا .غير ان البعض من رفاقنا ممن نبت لهم زغب في وجهوهم في ذلك الوقت لم يكن يأبه بنصيحته ربما لأنه كان يرى في التحذير تحبيبا خبيثا ).ثم أصبح نهج زرقون مخصصا لبيع الثياب القديمة التي يقبل عليها التونسيون حتى لا يضطروا الى المشي عرايا في بلاد قلما يمكنك -اذا كنت محدود الدخل- ان تجد ما تحتاجه لشراء ثياب جديدة . استعضت لاحقا عن نهج زرقون بنهج الدباغين. ذهبت يومها اليه أطلت التجول بالنهج .كنت فرحا مسرورا كما كنا نكتب في انشائنا الابتدائي لأني وجدت بعض سعادتي هناك اشتريت كتابين الأول هو الجزء الأول من ثلاثية Les Chemins de la liberté لجون بول ساتر وكنت املك الجزأين الثاني والثالث Le Sursis ; وLa Mort dans l’âme

والثاني رواية « ميرمار » لنجيب محفوظ وهي من روايات نجيب محفوظ القليلة التي لم اقرأها رغم اني شاهدت الفيلم المقتبس منها وتمتعت بالأداء الرائع للفنانة الرقيقة شادية …اشتريتهما الاثنين بسعر أقل من سعر ال 100 غرام قهوة التي تركتها في نهج إسبانيا. طيب لا أسف فلنعوض الإدمان على القهوة بالإدمان على شراء الكتب القديمة التي لم يعد يشتريها الا الديناصورات مثلي.

المشهد الثاني :

في ضاحية من ضواحي تونس الشمالية وفي حي يصنف من بين الأحياء « الراقية» شاهدت صفا طويلا أمام محل لبيع المواد الغذائية كثر فيه الهرج وتعالت الأصوات وكاد الأمر أن يصل الى العراك بالأيدي سألت عن السبب فقيل لي ان القهوة تباع بالسعر العادي أي 5 دنانير لربع الكيلو . ترددت في الوقوف مع الواقفين .ولكني كرهت ذلك فقد أصبحت أقضي ساعة او ساعتين من عمري وأنا رجل متقاعد في الصف اللعين لشراء السكر و الخبز. لعنت مروري بالمحل لأنه سيضطرني الى الكذب . لم أشتر القهوة .

المشهد الثالث :

أفاق أفراد العائلة صباحا. سألوني عن القهوة التي وعدتهم بجلبها .لم أقل لهم أني كرهت الوقوف في الصف ..أعلمتهم باستحياء أني لم أجدها . سادت الكآبة البيت ثم تحولت الكآبة الى غضب صب جامه على رأسي لأني أب متقاعس او بخيل يستكثر على العائلة شراء القهوة ب حوالي 5 دنانير ال 100 غرام .كاد الأمر أن يتحول الى خصام عائلي .غادرت البيت تفاديا لما هو أفدح .ذهبت لاحتساء قهوة خلسة و بعيدا عنهم .

المشهد الرابع :

مررت صباحا بمقهى وضع لافتة كبيرة في « التيراس » كتب عليها «هنا يباع البنّ خلسة» ..ضحكت كثيرا للقياس الفكه بين البن وأم المعاصي ..والحقيقة انه لا فرق بين هذا و تلك فشعبنا مدمن على القهوة كما هو مدمن على البيرة. لم أرد تصوير اللافتة ربما خشيت من صاحب المقهى الذي قد يبدو له مشهد تصوير واجهة مقهاه مريبا وقد أكون خشيت أيضا ان أتهم بأني ضد الحكومة لأني أعيش في بلد سوّى فيه الحاكم بين البن والخمر حتى لكأن البن أصبح معصية تماما مثل السلتيا والمرناق يشتريان خلسة وهما لا يتوفران يوم الجمعة أو بعد الثامنة ليلا في غيرها من الأيام لمن لا يطيق البعد عنهما ..لا مشكلة « وداوني بالخمر حين تغيب القهوة».

المشهد الخامس :

الممرن الوطني قيس اليعقوبي أظنه جنّ و أضاع البوصلة تماما. قال في ندوة صحفية إثر هزيمة المنتخب الوطني ضد غامبيا ان المطالبة بفريق وطني متفوق غير معقول. فكيف يكون لدينا منتخب ممتاز في حين أن البلد غارق في مشاكل يعاني منها التونسيون صباح مساء فالصفوف لا تنتهي لشراء السكر والقهوة وقطاعا الصحة والتعليم في حالة يرثى لها .؟.اشفقت على قيس اليعقوبي من تصريحه فهو محسوب على النادي الافريقي وأنا من عشاق فريق الشعب ومن المدمنين على القهوة.

المشهد السادس :

فتحت القناة الوطنية مع نشرة الثامنة مساءا استمعت الى قارئة الاخبار التي تقول لنا مع نهاية كل نشرة ان قناتهم هي «بيت التونسيين» . وهي تقرأ هذا الخبر «قدر فائض الميزان التجاري الغذائي لتونس إلى موفى أفريل 2024 ب 1،350 مليار دينار مقابل عجز بقيمة 0،213 مليار دينار خلال الفترة ذاتها من سنة 2023.وبلغت نسبة تغطية الواردات بالصادرات نسبة 156،8 بالمائة مقابل نسبة تغطية في حدود 91،6 بالمائة في ، 2023، وفق مؤشرات نشرها المرصد الوطني للفلاحة.ويعود تحقيق فائض على مستوى الميزان التجاري الغذائي، أساسا، إلى ارتفاع قيمة صادرات زيت الزيتون، بنسبة 109،8 بالمائة، ومنتوجات الصيد البحري، بنسبة 40،8 بالمائة، في مقابل تراجع قيمة واردات الحبوب، بنسبة 2،2 بالمائة، والسكر، بنسبة 64،3 بالمائة».

لم يجئ ذكر الزيت النباتي المدعم الذي اختفى تمام من السوق لان الحكومة لم تعد تستورده وثمن الأرز الذي وصل سعره أحيانا الى 5 دنانير بحيث اصبح شراؤه تبذيرا لا يطيقه جيب التونسي والفرينة التي تحضر وتغيب والسميد المستعصي على الشاري.

تذكرت الصفوف التي تحدثت عنها وأنا سعيد جدا بفائضنا التجاري.هكذا تحقق فائضنا من روحنا التي فاضت من الهم والغم . ولكن لاباس لابد من التعويل على الذات في بلد يباع فيه البن خلسة.

المشهد السابع :

نائبة بالبرلمان اظنها نسيت الموقع الذي هي فيه. شنت حملة على شعار » البناء والتشييد» استغربت المسكينة تكرر الشعار بمناسبة مناقشة ميزانية 2025..تحدثت عن معاناة التونسيين أمام الصفوف وعن البطالة وعن معاناة الشباب .كانت في غاية الحماسة .خشيت على هذه النائبة أن يفكر البعض في سحب الثقة منها لتشكيكها في أقدس مقدسات 25 جويلية وهي »الشعب يريد » في حين انها تقول ان الشعب مشغول بالسكر والقهوة.

المشهد الثامن

افقت على صوت المذياع صباحا وهو يعلن فوز الرئيس بنسبة تقارب التسعين بالماء أغلقت المذياع و من دون سبب واضح تذكرت » متلازمة ستوكهلوم Le syndrome de Stockholm» التي اشتقت اسمها من الفيلم الشهير ستوكولهم . الفيلم يحكي قصة السطو على بنك كما يروي قصة الغرام التي تنشأ بين موظفة بالبنك وأحد افراد العصابة الذين سطوا على المؤسسة . شاهدت الفيلم من قبل ولكن ربما لمرض المازوشية الذي أعاني منه مثل كثير من التونسيين قررت وأنا بكامل وطنيتي المفعمة بحب تونس ان أعيد مشاهدة الفيلم كل 25 جويلية من كل سنة وأنا احتسي فنجانا من القهوة.

قبل ثلاث سنوات

مشهد وحيد في مسرحية من نوع الوان. مان. شو

فتحت التلفزيون ليلة 25 جويلية من ذات سنة .. البلاد مقبلة على عهد جديد .السيارات تصيح وتزمر .. النظام استجاب لرغبة التونسيين فألغى الحكومة و حل البرلمان في انتظار إلغاء كل نفس حر ..تهاطلت مواقف الإشادة والمباركة.. لم يتخلف أحد : اتحاد الشعل، النساء الديمقراطيات، نقابة الصحافيين، كثير من الأحزاب، ما شاء الله من الجمعيات . »أمشي يا زمان وإيجا يا زمان. ». لم يبق في المشهد غير رجل مفرد يتكلم وحده اما البقية فقد قرأت خبرا يعلن عن فقدانهم جميعا . والغريب أنه لا أحد يسأل عنهم لأنهم يشبهون « العشرية السوداء » شبه الغراب بالغراب في بلاد صارفيها النضال يباع ب »الصمت » خلسة تماما مثل السكر والقهوة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات