المشهد السوري من منظور النخب السياسية العربية

يمكنني ولو على عجل أن اقسم النخب السياسية العربية بشكل عام الى ثلاثة :

أ‌- النخب العقائدية:

وهي النخب التي تنتمي الى تيار ديني أو منظور آيديولوجي وتسعى لتفسير الظواهر السياسية من خلال مسلمات تلك العقيدة أو الآيديولوجية، وقد يكون التحليل متسقا ومترابطا بقدر منطقي كاف احيانا ، ولكنه قد يميل الى التحايلات الذهنية لتطويع الظاهرة لتلك العقيدة او الآيديولوجية من خلال تلك التحايلات التي اسهب لورينز (Lorenz) في توضيحها في نظرية عدم الاتساق المعرفي((Cognitive Dissonance، وكثيرا ما كان التحايل "لاوعيا" ، اي ان المتحايل لا يدرك ان لاوعيه-عقله الباطن- هو الذي يحلل وليس وعيه، لان الضغط النفسي الكامن في الاعماق يلعب دوره في تشكيل انماط مختلفة من التعصب نحو الذات..فالمدخن يدرك تماما ان العلم اثبت وبشكل قاطع ان التدخين مضر جدا، لكنه يدخن..فكيف نوفق بين المسالتين؟ ذلك يعني ان عليك ان تسأل نفسك عن نسبة "الانحياز " في تحليلك للمشهد السوري الحالي؟ وهذا لا يعني ان التحليل العقائدي او الآيديولوجي بالضرورة غير صائب،فكثيرا ما كان دقيقا، لكنه قليلا ما حاسب نفسه.

ب‌- النخب الاكاديمية:

وهي المجموعة التي تحاول أو تدعي انها تسعى لفهم الظواهر السياسية متحررة من الانحياز الذي يصيب المجموعة العقائدية، ولا ترى ضيرا في تعديل استنتاجاتها او تغيير مناهج بحثها إذا دل الواقع على عكس ما تصورته ، فالحقيقة-او ما تبدو انها الحقيقة- هي ضالة الباحث، واعتقد ان مهمة هذه الشريحة النخبوية هي الاعسر في المجتمع العربي تحديدا، فهي بين نارين: نار العقائديين ونار اللهفة للكشف العلمي الموضوعي للظواهر.

ازعم أنني من المتابعين لما يكتب في العالم عن الشأن الدولي بشكل عام وعن الشأن العربي بشكل خاص ، وأزعم ثانية أن الدراسات الاجنبية عن سوريا-بما فيها الاسرائيلية – نسبة الموضوعية فيها اكثر من نسبتها في الكتابات العربية، ولا ادعي انها موضوعية مطلقة، ولكنها تزود القارئ بكثير من المؤشرات والمعلومات ، بينما اغلب ما في العالم العربي مشغول "بالاتهام والنصيحة " والتي نقع جميعا فيها احيانا.

ت‌- النخب المصنوعة:

وهي المجموعة التي تصنعها وسائل الاعلام وأجهزة المخابرات وأكياس المال ، فكثيرا ما نرى محللين على الشاشات وتحت اسمه خبير استراتيجي او خبير العلاقات الدولية او خبير الشأن الصيني او الايراني وهو لم ينتج في هذه الموضوعات أكثر من مقال –إن وُجد-، كما ان اجهزة المخابرات في العالم العربي بخاصة لديها دوائر تعمل على التلاعب بالراي العام من خلال الشعراء والمسلسلات والخطب والرسوم بل ودس عسسها في صفوف الشريحة النخبوية الاولى والثانية ، وازدادت سطوة هذه الأدوات بعد ثورة الانترنت وما ترتب عليها، وهناك نخب يصنعها المال، فتجد ماركسيا اصبحت مراجعه هي الطبري والبخاري، واسلاميا ينتقل من تخصصه في عذاب القبر الى تخصصه في الجغرافيا السياسية، وهؤلاء شأنهم شأن المتنبي الذي جعل من كافور"ابا الطيب لا ابا المسك وحده" في الصباح، وعندما لم ينل غايته حول كافور في المساء الى صف" الأنجاس المناكيدُ" .

وقد يستهين البعض بهذه النخب المصنوعة، لكنها تؤثر بقدر كبير في توجهات المجتمع من خلال الثقافة الغرائزية والرشى المالية والمناصب ، فهل تصلح ثقافة كهذه لتكون مرجعا لمعرفة ملابسات المشهد السوري؟

ملا بسات سوريا: ماهي ملابسات المشهد السوري التي يتمحور النقاش حولها؟

1- الديمقراطية:

لو القينا نظرة على قوائم مؤشر الديمقراطية في اكثر من عشرين مؤسسة بحثية ، سنجد ان كل الدول العربية بما فيها سوريا، تقع ضمن قائمة دول الاستبداد، وبالتالي فمن يريد نقد سوريا لاستبدادها –وهو اتهام مُحِقْ- عليه ان لا يكون أداة بيد مستبد آخر، او قناة فضائية تغذي النخب المصنوعة في مجتمع لا يقل استبدادا بل ينتقل الحكم فيها استنادا لخيط الحيوان المنوي او الانقلاب العسكري او اليد الخفية في الخارج.. فالحرب في سوريا ليست بسبب الديمقراطية المفقودة ، فمطلب الديمقراطية في سوريا حق ولكن يراد به باطل. ثم كم مرة اشتبك المعارضون للنظام مع بعضهم ، ولعل اشتباكات التيارات الدينية مع بعضها او اشتباكاتهم مع الاكراد او الانشقاقات داخل صفوفهم مؤشر على انهم لا يمتلكون ما يقولون ان النظام يفتقده.

قد اتفهم ان تطالب النرويج او الدنمارك سوريا بالديمقراطية.. ولكن كيف اتفهم مطالبة طغاة آخرون لسوريا بالديمقراطية؟ انها احجية.

2- قتل الشعب:

تتركز التهمة في سوريا على أن النظام وايران وحزب الله قتلوا آلاف المدنيين السوريين، وعند مراجعة ارقام المعارضة وارقام النظام السياسي وارقام الامم المتحدة ولجان حقوق الإنسان والمرصد السوري لحقوق الإنسان المعارض وبعض التقديرات الغربية فان عدد القتلى متباين الى حد كبير جدا ، واقل رقم وجدته هو حوالي 330 الف قتيل حتى عام 2020 ، واعلى رقم وجدته هو حوالي 840 الف قتيل حتى مارس 2024(أي قبل الازمة الحالية)، فمن قتل هؤلاء جميعا؟ يتبين ان المسؤولية مشتركة بين النظام والمعارضة، فطبقا للأرقام خسر الجيش والشرطة السورية وحزب البعث حوالي 175 الف قتيل، بينما خسرت المعارضة وانصارها حوالي 140 الف قتيل، ومع اقراري بالتباين الكبير بين الارقام فان النظام والمعارضة قتلوا مئات الآلاف من بعضهم، المرصد السوري المعارض يشير إلى حوالي 20 الف مدني قتلتهم المعارضة وبخاصة داعش وقسد والجيش الحر وجبهة النصر وحلفاؤهم... الخ بينما قتلت قوات الحكومة أضعاف ذلك..وهو ما يعني أن التركيز على من قتلهم النظام وغض النظر عن من قتلتهم المعارضة هو أمر بحاجة للتأمل والبحث عن دوافعه..فكلاهما مارس القتل، وكلاهما يصف قتله للآخر بانه " حق".

3- التحالفات في المعركة:

تكاد أن تجمع التقارير الاكاديمية على ان خريطة التحالفات في هذه الازمة واضحة تماما، فسوريا الحكومة وايران وحزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية ومعهم روسيا يشكلون الجبهة الاولى، اما الجبهة المقابلة فتضم حركات دينية وعلمانية وقومية سورية تساند كل منها جهة خارجية، فقطر باعتراف رئيس وزرائها السابق قال بشكل صريح ان بلاده دفعت 137 مليار دولار للمعارضة، وتركيا (العضو المهم في حلف الناتو ،والمعترفة بإسرائيل اعترافا تاما ، والشريك التجاري الاول في الشرق الاوسط لإسرائيل والاكثر اتفاقات امنية معها لتصل الى 12 اتفاقية وتحتل 8800 كيلو متر مربع في سوريا، بل ان مسؤولا حزبيا يدعي منذ ايام ان حلب مدينة تركية ) ، ثم هناك امريكا واسرائيل لا تخفيان تأييدهما للحركة الكردية ، ويكفي تتبع مراكز الدراسات الاسرائيلية وتوصياتها في هذا المجال ، فهل اسرائيل حريصة على حقوق الاكراد بينما هي تنكر حقوق الفلسطينيين ، وهل اسرائيل تدافع عن الاكراد ضد النظام السياسي السوري بينما هي محكوم عليها من اعلى هيئة قضائية في العالم بجريمة الابادة الجماعية ؟ ، كما ان دولا خليجية أخرى ساهمت في هذا الدعم،بل ان حدود هذا الدعم كان احد سبب تفجر الخلافات بين قطر وبعض دول الخليج..ذلك يعني أن سعي النظام لإيجاد حلفاء لا يختلف عن سعي المعارضة لجلب حلفاء حتى لو كانت اسرائيل من بينهم.

4- الوجود العسكري الاجنبي:

إذا كان الوجود الايراني والروسي ثغرة في السيادة والاستقلال السوري، فكيف ننظر للوجود الامريكي والتركي؟ فإذا كان لروسيا 21 قاعدة عسكرية و 93 نقطة مراقبة ، فان لامريكيا 17 قاعدة و 15 نقطة مراقبة، وإذا كان لإيران مراكز عسكرية (تتفاوت تقديراتها بقدر غير معقول بين التقارير المختلفة) فان لتركيا 12 قاعدة عسكرية و 114 نقطة مراقبة..

لكن ثمة نقطة يجب الوقوف لها، فمع الاقرار بالمساس بالسيادة السورية من طرفي الصراع، فان السؤال المركزي هو اي الحلفاء الاكثر ضررا في الموقف من القضية الفلسطينية؟ وهنا تتبدى التحايلات المعرفية ، فالنظرة الموضوعية تشير الى ان حلفاء النظام اقل ضررا وانحيازا تجاه القضية الفلسطينية، فالموقف الروسي والايراني في التصويت في الامم المتحدة او في توجهاتهما الاعلامية او في تقديم الدعم السياسي او في محاولات اصلاح ذات البين بين الفلسطينيين او في الموقف من طوفان الاقصى متقدم على موقف حلفاء المعارضة، وهناك من سيقول ان حلفاء النظام يعملون لصالح دولهم..وهل كانت السياسة شيئا آخر؟ فالكل يعمل لصالحه، ولكن السؤال من هو الاقل ضررا لي.؟ وهل الولايات المتحدة وتركيا تعمل لغير صالحهما؟ فالكل سواء في البحث عن مصالحهم القومية.

الخلاصة:

إن غياب منظور استراتيجي عربي هو المسؤول عن تحويل الاقليم العربي من لاعب الى ملعب، لقد عرفت اوروبا حروبا داخلية تفوق في أهوالها عشرات اضعاف ما نعرفه الآن في العالم العربي، ثم اكتشفوا المعادل الاخلاقي لإدارة العلاقات الدولية، بالانتقال الى التنافس بينهم على من يقدم النموذج الافضل في إدارة العلاقات الدولية، فانتهوا الى نموذج الاتحاد الاوروبي..

ان ثقافة التحريض تختلف تماما عن ثقافة النقد، فالتحريض العقائدي والغرائزي يضيف للنار وقودا، اما ثقافة النقد فهي محاولة لعقلنة الرؤية الاستراتيجية، وتحديد ما هو الخطر الاكبر الذي يواجه المنطقة العربية حاليا، هناك اخطار كثيرة، لكني اعتقد ان خطر المشروع الاستراتيجي الصهيوني هو قاعدة ومنطلق كل الأخطار، وما لم يتم مواجهة هذا الخطر ، سنبقى ملعبا لا لاعبين...وهنا يجب المقارنة بين منظورين : منظور الانظمة العربية تجاه المشروع الصهيوني، ومنظور المعارضات العربية تجاه هذا المشروع، واخشى ما أخشاه ان المنظورين- الرسمي والمعارضة - يتجهان للوقوف ضد المنظور المجتمعي الذي تجمع كل استطلاعات الرأي العام الغربية والعربية والاسرائيلية على رفضه وبنسبة لا تقل عن 85% للوجود الصهيوني باعتباره آخر مواقع الاستعمار الاستيطاني..وهنا اسال :ما هو مشروع المعارضة السورية تجاه اسرائيل؟ ولماذا يغيب عن أدبياتها؟…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات