ومضاتٌ في سياق سقوط الأسد..

اعتقد انّ ما يحدث في سوريا من احداثٍ تُحاكي عملية "اقتلاع نظام حُكم" (دام عقودا) بهدف إعادة تشكيل مشهد البلد وبالتالي كل المنطقة، وإخضاعها للأجندات الجيوسياسية التي استحدثها رأس المال العالمي في سياق تعدد أقطابه ذات التوازن الهش، اي في إطار مرحلة انتقالية تؤسّس لاقتصاد سياسي جديد باتت ملامحُه بيّــنةً منذ العقديْن الأخيريْن.

هذا، ورغم أن سُوريا أثبتت تاريخيا أنها عــصيّةٌ على كلّ من بادرها بالمناورة لاحتوائها، اذْ بقيت قُــرونا في مرمى قوى عالمية متعاقبة ومتنافسة بينها لما لسوريا من قوّة ناعمة ضاربة في التاريخ ولما لها من ثقافة متنوعة وكذلك لما تحظى به من موقع استراتيجي وثروات ومن مرونة شعبٍ تُجاه الصّدمات الخارجية والداخلية من حروب وأزمات واغتيالات سياسية وانقلابات عسكرية. ومع ذلك ظلّت مَعينًا لا ينبض للفكر بمختلف ألوانه وحاضنةً للأديان والفنون والثقافة، كما لها شعبٌ صبورٌ، خدومٌ، متفاوضٌ، متفتّــح، أصيل وصعب المراس….

والرغم من ذلك، تبدو هذه المرة وكانّ البلدَ انخرط - ارادياً وغير إرادي- في مسار إقليمي وعالمي متشعّــب، يختزل توازناتٍ استراتيجيةً متجددةً، محورُها الرئيسي في آخر المطاف حزمةٌ من المصالح الاقتصادية المتقاطعة.

دعنا نعيد النظر في تسلسل هذا المسار منذ 2011 حيثُ كان الهدفُ "المؤكّد" آنذاك -ولا يزال- فكَّ الارتباط بين إيران وسوريا اللتيْن كانتا تحت الحصار الاقتصادي لأسباب في ظاهرها مُختلفة. ويتنزّل هدفُ "فك الارتباط" هذا في إطار رؤية اقليمية شاملة تُحذّر من سيناريو مُمْكن جدّا وهو الوحدة/الشراكة بين كبار دول آسيا الصاعدة كقوى جهوية عالمية (الصين، روسيا، الهند، إيران) وبعض دول الحاشية من أوروبا الشرقية وجنوب آسيا وغرب الصين وكذلك مع الدول المُتاخمة جنوبا لسوريا حيث هذه الأخيرة تكون "الجسر الأساسي"؛ شراكةٌ قد تسرّع بإضعاف المُــعسكر الاقتصادي الغربي الذي بات تفوُّقُه التكنولوجي متضائلاً. وقد يسمح هذا الارتباط بإحالة الصّراعات والثنائيات "المُفتعلة" إلى الخلف؛ صراعاتٌ أهمُّها: الشيعة/السنّة، الليبرالية/اليسارية، بين القوميات أو كذلك بين الأطياف الدينية.

وقد يكون هذا السيناريو نابعًا من واقع المنطقة حيث تصاعدت ضغوطات الشعوب على حُكّامها الذين لا هم قادوهم للازدهار ولا للمواطنة ولا تركوهم في وشأنهم يصارعون قدَرَهُــم. ومن ناحية أخرى لا يخدم سيناريو مواجهة "فكّ الارتباط" المصالح الاستراتيجية للمعسكر الاقتصادي الغربي، ذلك أن مُبادرة الصّين العام الفارط للعب دور الوساطة بين السّعودية وإيران أحدثت قلقا لدى الإدارة الأمريكية. كيف لا والدول الأسيوية الكُبرى تطمح الى ضمّ سوق يفوق ثلث سكان العالم بدون إضافة باقي دول البريكس…

الاّ أنّ ما حصل ابان عام 2011 جعل من سوريا مسرحا لصراعٍ مُفرداتُه تؤكّد مناهضة السيناريو أعلاه، وهي تتمحور حول :

(1) حماية العلاقات بين سوريا وإيران من خلال حماية نظام الاسد، بتدخّل مباشر من روسيا وايران وحلفائها (حزب الله اللبناني) من جهة، و

(2) العمل على الإطاحة بنظام الاسد بدعم غربي مباشر أو بالوكالة لمعارضةٍ غالبيتُها سُنّية من جهة أخرى - بقطع النظر عما اذا كانت متطرفة او معتدلة…- وهذا موضوع آخر.

لم يكن التدخل الروسي في سوريا فقط لتأخّر إدارة اوباما في التواجد الميداني بسوريا آنذاك وانما كان كذلك اداةَ ضغط وتفاوض حول استحواذ روسيا لشرق شبه جزيرة القرم، وفي نفس الوقت بهدف الغاء مشروع تمرير الغاز القطري عبر سوريا ممّا يهدد مصالح روسيا كــمُموّنٍ رئيسي لأوروبا بالغاز الطبيعي مثلما تمّ ذكرُه في بعض التقارير..

وتواصلَ الصراعُ في سوريا وتوسّــع نطاقه بما أسفر ذلك من قتل وتهجير قسري ومبالغة في استعمال الاليات العسكرية البريّة والجويّة الضخمة؛ صراعٌ لم يكن لينتهي مادام طرفَا الصّراع تصلِهما الإمداداتُ بصفة متواصلة وما دام وعيُ كلٍّ منهما عميقاً بانّ المعركة مصيرية.

وفي الاثناء، تواصلت الحرب التجارية بين أمريكا وحلفائها من جهة والصين وحلفائها من جهة أخرى الى أن أصبح النظام الاقتصادي العالمي مُجزأً من خلال تصاعد التحالفات الجهوية والتدابير الحمائية. الا أنّ المعسكر الشرقي لا يبدو قد تأثّر، بل تعطّل مسار الانتقال الطاقي الذي أرستْ له أوروبا استثمارات وأموالا فلكية قبل واثناء الحرب في أوكرانيا.. ذلك أنّ حاجتها للغاز الطبيعي ارتفع ولكن حاجتها للطاقة الاحفورية مازالت قائمةً ولا تبدو منتهية في السنوات القادمة.

إنّ انهيار نظام الأسد جاء في إطار تراجع دعم روسيا له مُقابِــل تقدّمِها في أوكرانيا وربّما مع استئناف "النور-ستريم" الذي ينقل الغاز الروسي الى المانيا في البلطيق. وفي نفس الوقت قد يُراهن المعسكر الغربي على الإسلام السياسي السُّني لإدارة البلاد في المرحلة القادمة مع ترتيباتٍ قد تُدخل البلاد في سيناريو مشابه للسيناريو العراقي أو اللبناني، حيث الكيان الصهيوني يكون المُستفيد الأكبر.

أخيرا، وبدون التقليل من دور القوى المُمانعة والتخلص من نظام أوتوقراطي، بات جليّا أنّ الأيديولوجيات في البلدان العربية قد تجاوزها التاريخ سيما وأنها لم يتمّ تحديثُــها الى أن أصبحت عائقا أمام تعميق الوعي الجمعي حيال التحديات الحالية. فهل قدرُنا أن نبقى على هامش توازنات ومفاوضات يقوم بها الكبار؟

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات