عندما ينظمُّ الجامعي للمناصب السياسية: سلاح ذو حدّيْـــن.

تعاقبت خلال العشرية السابقة العديدُ من الحكومات، وكان لبعض الجامعيين عمومًا نصيبٌ في تحمّل مسؤولية ادارة البلاد. ولئن كانت الدوافع للالتحاق بهذه المواقع مختلفةً من شخص لآخر سواءً للمصلحة الشخصية أو العامّة، فانّ التمييز بينهم على أساس النوايا غير ممكن، ولكن هناك معطياتٍ موضوعيةً تضعُ الجامعي أمام تحدّيات قد تدفع الرأي العام الى تعميم الحُكم عليهم، سلبا أم إيجابا. ذلك أنّه من النادر أن تجد جامعيا مُحنّــكًا في السّــياسة، وسياسيًّــا مُحــنّكا في إدارة الملفات الهامّــة مثل المالية والاقتصاد والصناعة والثقافة والمسائل الاجتماعية والتخطيط الاستراتيجي والتجارة والسياسات الصناعية والمسارات التنموية.

ومن جهة أخرى هناك العديدُ من السياسيين الذين يعتبرون أنّ الجامعي غير قادر على التوفيق بين مرجعياته النظرية وفضائه الخاص بالبحث والتأطير والتعليم من جهة، ودراسة نواميس الواقع والإدارة العامة وخباياها ومسارات أخذ القرار السياسي من جهة أخرى؛ فيما يرى بعض الجامعيين أنّ غالبية السياسيين الذين ساسُــوا الناس خلال تلك الفترة ليسوا في مستوى التحدّيات المطروحة خاصّة عندما يكون معيار التقييم "النتائج الملموسة". فالجامعي ذو الخلفية النظرية يعتقد أنّ السياسي عبءٌ على الدولة لعدم اختصاصه، والسياسيّ ذو الملامح القيادية وفي بعض الأحيان النضالية يرى أنّ الجامعي ليس له مشروع سياسي ولا يمكن له أن يقود المرحلة ويتحمّل المسؤولية السياسية. فتنشأ بينهما علاقات غير سليمة ويفقد الفريق الحكومي أداءه …

ولكن، دعنا من هذه النقطة التي تحتاج تحليلا مغايرا ينتهي الى البُعد التنظيمي والمؤسّسي في إدارة الشأن العام، ولْــنقتصر على واقع الجامعيين في الفِــرقِ السياسية.

أعتقد أنّ التحديات التي تواجه الجامعي في إدارة الشأن العام (مستشارا، خبيرا، كاتب دولة، مدير ديوان، وزيرا، …) مرتبطة بدوافعه التي جعلته يلتحق بالحكومات لعل أهمّها:

- إذا كان الدافع الأساسيُّ المصلحةَ الشخصيةَ، أي بهدف تحسين الراتب الشهري وتكوين رأسمال علائقي واثراء السيرة الذاتية والانضمام الى حلبة السلطة بما في ذلك الشعور بالمكانة الاجتماعية وقضاء الشؤون الشخصية عبر القنوات الموازية، فانّ غالبية هذا النوع تنتهي مُــهمّتُهم حال الحصول على المنصب لأنهم فاقدون لمشروع مجتمعي. ذلك انّ ديْــدنَــهم هو إرضاءُ "أولياء نعمتهم"، اذْ لا يأخذون زمام المبادرة، ولا يخاطرون بموقعهم ويسيرون بشكل عام على "رؤوس الأصابع". والامثلة كثيرة جدا.

- وإذا كان الدافع الأساسي أيديولوجيا، أي بهدف ملأ الفراغ أو قطع الطريق أمام المنافسين السياسيين من مشارب ايديولوجية أخرى، فانّ المهمّة ستكون قرارات واصلاحات تنفّذ في ارض الواقع القناعات الأيديولوجية الراسبة (من تشريعات، تعليم، ثقافة، اقتصاد، مؤسسات، …) أو تعطيلَ مرافق الدولة بالاهتمام بفشل الاخرين وتعبئة الجهود والأجهزة الرسمية لتوريط المنافسين السياسيين.

وفي الحالتيْن أعلاه، إن التحاق "الجامعي" بالسلطة ينزع عنه صفة "الجامعي" لأنه دعمٌ ضمني وغير مشروط إن لم يكن صريحا للنظام القائم لأنه يقتضي التمسك بخطته العامة. وقد يضطر هذا الجامعي ـ ما دام في موقعه السياسي ـ إلى ابتكار الحلول وربما المغالطات والسفسطة دفاعا عن تلك الخطة حتى لا ينتقـــدها في الفضاء العام، وربما في أروقة الوزارات من أجل إرضاء منظوريه. وقد يكون تعيينُــه مناورةً سياسيةً لإضفاء الشرعية للنظام القائم. وكما لجأ بن علي إلى تشغيل أساتذة جامعيين في الاقتصاد والمالية والتخطيط والتعليم العالي والقانون والتجهيز وحتى الدفاع، ورغم تقييد مجال نشاطهم، إلا أن في تلك الفترة زاد الفساد والمحسوبية، وبدأ نمط النمو الكامن في بداية أعوام 2000 يتراجع وارتفعت البطالة الهيكلية واتسعت الفوارق الجهوية وأصبحت المالية العامة هشة وبدأت نسبة المديونية ترتفع ولو بشكل بسيط حتى جاءت ساعة الانفجار الاجتماعي في 2011… ولذلك تجد الأستاذ الجامعي منفصلا عن قناعاته العلمية وشخصيته التي هي من المفروض قائمة على التحليلات الصارمة والموضوعية الى أن تُحجبَ رؤيتُه للواقع، وذلك هو جوهر الاغتراب السياسي.

- وأما إذا كانت دوافع الجامعي الانخراط في الشأن العام والمساهمة قدر الإمكان في ادارة المرحلة في إطار مواطني صرف، فانّ الوضع يختلف تماما لأنه سيفرض أسلوبا معينا من التعامل وشروطَ عمل تتماشى مع مجال اختصاصه وأهدافه كمثقّف وجب عليه الانخراط في الشأن العام. ومن بين هذه الشروط هي المقاربة التشاركية وفق أفضل ممارسات الحوْكمة بحيث يكون التوظيف شفافا وغير خاضع لمقاييس ذاتية مثل المحسوبية والانطباعية، مع وضع "عقد ضمني" بين الحكومة والجامعي، بحيث يحقق أهدافها التنموية من خلال إصلاحات هيكلية يحتاجها البلد منذ عشرات السنين وتأخّرت عن الإنجاز.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات