أجمل ما فينا.

رحيل الفنان الكبير فتحي الهداوي بشكل مفاجئ برهن على أن الموت هو الحدث الوحيد الذي يستطيع أحيانا أن يوقظ أجمل ما فينا نحن التونسيين. ففي بعض الجنازات فقط تنتصر المشاعر والأحاسيس على الاختلافات المصطنعة والأيديولوجيا. والعبارة التي تؤكد ذلك تكررت بشكل لافت للانتباه في هذه المناسبة الأليمة، وحري بنا أن نقف عندها طويلا لأنها لا تُسمع دائما: فقد قال كثيرون وبصيغ مختلفة: "شعرنا بأننا فقدنا واحدا من أفراد العائلة".

هكذا فسر التونسيون حزنهم على فتحي الهداوي، وكأن الحزن في حاجة إلى تفسير وتبرير!، بينما يكفي أن تمرّ أمامك أحيانا في الشارع جنازةُ شخص لا تعرفه حتى تقف إجلالا لحدث الموت، فيتجمد الدم في عروقك، وتعتري فرائصك رعدة، وتتحسس أنفاسك، ثم تهدأ شيئا فشيئا، وتستأنف حياتك المعتادة بعد مرور الموكب إلى غايته. يحدث ذلك لأن الجميع سواسية أمام الموت، وهو يذكرهم بحقيقتهم تلك ولو لبضع لحظات. لكن تفسير التونسيين حزنهم من الأهمية بمكان لأنه يعيد إلى الأذهان حقيقة نتناساها دائما وهي أننا (عائلة واحدة)!

في محاولة لفهم هذا الانفعال الجمعي الذي أثاره موت الفنان فتحي الهداوي سنضع سطرين تحت عبارة (أحد أفراد العائلة)، فهي تتجاوز التعبير التقليدي عن مشاعر الحزن المشتركة التي يسببها الفقد عادة، لتصف حالة فريدة من الإحساس الجماعي بالانتماء. وكم هي بليغة هذه العبارة بمضمونها القيمي الراسخ، وبما تختزنه من ذكريات مشتركة، وكأنها في هذا السياق بالذات رجع صدى لدراما (الزمن الجميل)، لقد استطاع فتحي الهداوي عبر مختلف الأدوار التي تقمصها النفاذ إلى الجوهر، وملامسة المشترك في المجتمع التونسي، وهذا مما يدل كذلك على ما للتلفزيون من أثر في التنشئة الاجتماعية طيلة نصف قرن من الزمان قبل أن يتخلى عن دوره ويبدأ رحلته العكسية في حضرة التفاهة والابتذال.

وحري بنا أن نتساءل: لماذا لا يشعر التونسيون بأنهم (عائلة واحدة) إلا وهم يشيعون شخصا عزيزا عليهم؟ ولماذا نبدو إذن في حياتنا اليومية أكثر توحشا وعدوانية وأقل تسامحا؟ لماذا نخوض (حربا باردة) إذا كنا في الحقيقة بهذه الهشاشة وإذا كنا سننتبه أثناء الجنازة المقبلة إلى أننا في النهاية شعب واحد يتألم أفراده جميعا من شمال البلاد إلى جنوبها لموت شخص واحد يشبههم جميعا؟ لماذا نفعل ذلك ونحن ندرك في قرارة النفس بأن ما يوحدنا أكثر مما يفرقنا، لماذا صرنا نتسابق في الفضاء الاجتماعي على إظهار أسوأ ما فينا؟

ستظل تلك الصورة التي ودع بها التونسيون فتحي الهداوي راسخة في الأذهان طويلا، صورته في لوحة إشهارية تخصص عادة لمخاطبة غرائز المستهلكين، فإذا بها توظف مؤقتا لمخاطبة الوجدان، في لحظة صدق نادرة لا تعبر فقط عن حب الفنان، بل عن صفاء النفس ونقاوة الجوهر. أذكر في هذا السياق ما قالته لي الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي في منتصف التسعينات عن انبهارها بتونس التي لا تتكرر عربيا، تونس التي تضع صورة أبي القاسم الشابي على ورقة نقدية وتطلق اسمه على إحدى طائراتها، كانت منبهرة لأنها تنظر إلينا من الخارج، فهل نحن في حاجة لمغادرة أجسادنا كي ننظر إلى هذه الروح الوديعة التي تسكنها؟

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات