هناك تاريخ لم يره المنصف ذويب من "برجه"!

أبشع الخيانات هي خيانة التاريخ، خيانة أحداثه وتفاصيله وتحريف الرواية ! وأسوأ ما قد يحدث لنا رؤية خيبة أخرى على وجه مناضل قديم.. شاهدت منذ قليل الفيديو الذي تحدّث فيه بألم آلمني سي عز الدين الحزڨي عن فيلم "برج الرومي" لمنصف ذويب وقبلها رأيت تدوينات لأصدقاء ثقات ولهم من الادراك والوعي للحكم على أي أثر فنّي يعبرون عن استيائهم من الفيلم وضعفه.. لم أشاهد الفيلم كما تفترضه الموضوعية والأمانة ولكن أنا أصدّق سي عز الدين وهو الشاهد على القضية وصاحب النصّ الذي انطلق منه ذويب لإنجاز فيلمه "نظرات أمّي"..

في الحقيقة سمعت عن الفيلم و الغريب أنه لم يثر رغبتي في مشاهدته رغم انه وبالنظر لاهتماماتي الخاصة يفترض ان أكون أوّل المتحمسين لمشاهدته.. ولكن وكذائقة فنية اعمال المنصف ذويب لم تلفت ابدا انتباهي وأصنّف دائما ما ينجزه في اطار الفنّ التجاري والذي غايته التكسّب لذلك استغرب كيف قبل سي عز الدين ان يضع تجربته وتجربة محاكمة 74 وتجربة برسبكتيف في يده…

برسبكتيف الجملة الاكثر نقاء و عمقا وثراء في التاريخ السياسي التونسي بعد الاستقلال (رأي خاصّ) كانت تحتاج في الحقيقة الى مخرج أعمق بكثير من ذويب ليعود بنا الى ذلك الزخم النضالي العظيم.. والنصوص موجودة !

واذا لم تكن هناك فرصة للاطلاع على كتاب سي عز الدين الا ان "الحبس كذاب والحي يروّح" لفتحي بن الحاج يحي و"كريستال" لجلبار النقاش تركا علامة في فكري وروحي وانا المسكونة بالتاريخ والاهم بتلك بفكرة برسبكتيف في حدّ ذاتها ككيان وكأبعاد..

زمنيا لم ادرك ذلك الزمن ولم اتعرّف عليه الا من خلال المصادر ولكن احلام ذلك الجيل المجهضة، خيباته، اوجاعه، تظلّ تحوم حولي لتذكّرني بأن هناك من حاول ان يفعل شيئا من اجل الحرية ومن أجل الديمقراطية و من أجل بلد نرسمه في خيالنا جيل بعد جيلا ولكن لا نطاله ابدا!

الى اليوم ما زال صدى كتاب "الحبس كذّاب والحي يروح" في داخلي..

الي اليوم ما زال شكل ذلك الزنزانة قابعا في جزء من ذاكرتي خاصة وان فتحي بن الحاج يحي لم يكتبه من موقع الضحية بل من موقع المتمرّد على ابوية سياسية استنزفت احلام جيل كامل.. لم يصوّر بورقيبة كسفاح جاهل يطلب دمّ معارضيه بل ركّز على الفكرة واختلافاتها.. على الفجوة في الرؤية.. وربما ازعم ان في فترة من حياتي اصابني هوس بأدب السجون انتهى بعد رواية معينة الى عيادة نفسية ولكن اعتقد ان تجربة ادب السجون في تونس وبشكل عام نجحت في اخذ مسافة عاطفية من المأساة وتعاملت بواقعية مع العقاب وكانت الآنفة حاضرة لتحمّل المسؤولية دون اغراق في دور الضحية.. كانوا ضحايا ولكن لم يتخلوا ابدا عن كبريائهم.

تعديل :لفت انتباهي صديق اني تناسيت ذكر "احباب الله" لكمال الشارني و "برج الرومي" لسمير ساسي وانا لم انسهما ولكن ذكرت النصوص التي ذكرها عز الدين الحزقي و التدوينة تعليقا على كلامه! لكن نصّي كمال الشارني و سمير ساسي قطعا هما من أصدق ما كتب في تجربة ادب السجون التونسي.

و حتى ندرك كيف تكون ابنا شرعيا لليسار بكل افكاره المتجذّرة في القيم الانسانية انظروا اليوم اين يقف ما بقي مرتبطا بشكل صحيح بتلك الفكرة.. يقف في المكان الصحيح تماما.. اما لقطاء الفكرة والمنتسبين لها بالصدفة نحن نعرف تماما موقعهم اليوم !

لذلك تألمت لألم سي عز الدين وهو يتحدث عن سطحية ذويب في تناوله لمسألة تاريخية وسياسية فارقة في تاريخ البلاد.. لم يكترث لمشاعر من عاشوا وعايشوا اللحظة.. لم يتفهّم ذويب حساسية ذلك الجيل وهو يعيش طوال العقود الماضية الخيبة تلو الاخرى..

جيل الاباء الصادقين الذين خذلناهم نحن جيل بعد جيلا ويأتي المنصف ذويب ليضيف مشهدا للخيبة.. مشهدا اعتقده رديئا جدا ككل اعماله التي تضحك الجمهور وتضحك عليه في آن.. ولكن لا تحترم عقله ابدا.. وها هي اليوم تسخر من تاريخه وذاكرته وذكرياته.. بكل قسوة !

قصصنا وتجاربنا عميقة وجميلة ولكن خيالنا بائس وكسيح!

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات