مرّ على الثورة أربعة عشرة سنة. من يصدق ذلك؟

طبعًا في مثل هذا اليوم يكثر الحديث حول نجاحها أو فشلها. بكل الأحوال، لا أعتقد أننا نتحدث عن نفس الثورة، حتى لو استعملنا نفس المصطلح. هل كانت سقوط عائلة بن علي، أم كانت المسار الديمقراطي، أم كانت مجموع الحركات الاجتماعية، أم كانت الانفتاح السياسي والتغيير الاجتماعي وارتفاع سقف الحريات؟

أم مسلسل الصراع على السلطة، أم صراع الطبقات الإجتماعية؟ أم التمرد الجندرى؟ أم.. أم..أم.. لا أعرف لكن ثورتي كانت تجربتي الشخصية أو ما عشته على مدار هذه السنوات، وكانت الثورة بشكل ما متن العيش فيه، قطعة من حياتي. لقد اخترقتني الثورة بالكامل. شكلت الإنسان الذي صرت عليه اليوم. لولا الثورة لما كنت هذا الإنسان بكل تفاصيله. وهذا لم يكن حدثًا، قد مر. مشروعا نجح أو فشل. مسارًا اتجه في اتجاه أو آخر. كان عملية تحول دقيقة جدًا ومعقدة، وصارت أمرًا واقعًا.

الآن، حين يمر تاريخ الثورة، لا أشعر بشيء. إنه يوم يشبه كل تلك الأيام المهمة جدًا في حياتي، التي حددت مساري لفترة، ثم انتهت. وبقي تأثيرها على حياتي دون أن يحددها بشكل كامل. حتى أنني من الممكن أن أنسى هذا الحدث بسهولة. ولكنني، ولو نسيته، لن يمكنني محو أثر حدوثه في داخلي.

لم تعد الثورة حدثًا ولا ذكرى. أصبحت تاريخًا صلبًا، تسير فوقه أيامنا، هذا التاريخ الذي كنا نحلم به ونضعه نصب أعيننا. لقد أدركناه يا رفاق. أقصد يا من بقي من الرفاق. لقد لمسنا التاريخ، ولا أشعر من ملمسه بشيء.

انتهت الثورة داخلي. وأعرف كم يبدو هذا مؤلمًا وفجًا. لكنه حدث. وأنا لم أعد أبدًا شخصًا ثائرًا. صرت امرأة متعبة وشبه محافظة، أرمم بعض العيش وأتمنى من قلبي لو بعصا سحرية يمكن إنتاج نظام اجتماعي وسياسي مستقر وعادل، يحفظ بلادنا من كل الأعاصير داخلها وحولها. وأجد في ذلك معنى جديدًا ومختلفًا.

أكتب اليوم أن الثورة انتهت في داخلي، لأن تجاوز الثورة كان من أصعب الأشياء التي عشتها. إنهاء الحداد والإحساس بالغبن أو تأجج الحنين، الغضب من فقد حالة شعورية، وظيفة اجتماعية وانتماء (ثائر) كانت مستهجنة، ثم مقبولة، ثم مشرفة، ثم محل تهكم وتسخيف، ثم محل تشكيك وتخوين وتهديد، الخوف من الفراغ و تهديد إعادة تشكيل الذات و الدور داخل المجتمع، أو خارجه..

أعتقد اليوم أنني تجاوزت على مراحل وبشكل كبير مرحلة شعورية حادة، كان يمكن أن تبتلع حياتي بالكامل من شدة التعلق والإدمان و الكثافة. تجاوزتها بتصالح كبير. نصفه إستيعاب فكري، نصفه نسيان وتجاهل، ونصفه تخفيف وتجميل رومانسي، هي طريقتي في هضم الأشياء والاحتفاظ بها.

مرات كثيرة نتحدث عن نقص توثيق الثورة. وأنغمس وأتحمس. ثم أنتهي إلى حقيقة حزينة جدًا. حزينة بشكل يكاد يكون غير محتمل لشخص مثلي. لقد مات من غناها: نور الثورة في قلبي ما زال حيًا. مات خالد. مات شابًا بحادث سيارة. فقط. فحسب. و يستحظر موته، موت و غياب أحباء مؤلم فقدهم.

صرت شخصا مستسلما تمامًا للحياة. توقفت محاولاتي للامساك بالزمن من خلال الكتابة. انكسرت إرادتي وثورتي على صخرة الزمن الذي مر. تأدبت. لا أحد يمكنه أن يحتفظ بالزمن. لا الكتابة ولا التعلق بالألم ولا إعادة نفس السيناريوهات ولا الصراخ المؤثم في وجه بعضنا البعض. تنتهي الأشياء. يموت الأشخاص. تنتهي العلاقات. تتغير السياقات.. يمضي الزمن ويطوي كل شيء. و تبقى سرديات الجميع، ثم تهيمن سردية لسبب ما لتصير حقيقة التاريخ. و لم أعد حقا أهتم للتاريخ. لقد فقد بريقه.

انتهت الثورة داخلي. لكنني مخلصة لها، كما أستطيع بشكل عاطفي وفكري وأخلاقي.. مخلصة لسيرورة ما صرته وامتناني لما عبرت به وتقبلي المتواضع لما آلت إليه الأمور خلال كل هذه السنوات.

لا أشعر بالحزن تجاه الشباب الذين لم يعيشوا ثورة 2011. أعتقد أنهم يعيشون ثورة معاصرة لست فاعلا فيها و لا أرغب بذلك. لا أشعر بالحنين. لا أشعر بالغضب. كل ما أشعر به هو الامتنان وحزن خفيف مع إنكار وأحيانًا يشتد.

كما لا أحب أن ألهم أحدًا بتجارب جيلنا. ولا أعتقد أن لجيلنا تجربة منسجمة. لقد أبدعنا في الاختلاف والانقسام حول أدق التفاصيل، حتى صار من المستحيل التفكير في سردية مشتركة دون التعرض لأبشع التهم والرمي بالعار.

وأحزن جدًا حين أجد نفسي في موقف دفاع عن الثورة..

لكنني توقفت حتى عن الدفاع أو محاولة الإقناع. بكل حال، أعرف وحدي ما عشته، ولي رفاق ورفيقات هم شهداء على تاريخية بعضنا البعض، يؤكدون لي حتى في لحظات الشك والنسيان.. أن ما عشناه كان حقيقة وحقيقيًا وحيا فينا.

مع ذلك، أحب أن أكتب عن الثورة، كما أحب أن أشارك صور بيت جدي، مع حزن خفيف أنه باع، ولا يمكنني دخوله. لا أكتب لاسترجاع ملكية أو لمقاومة حتمية الواقع، فقط لأعيش حنيني بشكل يشبهني.

كانت أيامًا جميلة. شعرنا فيها أننا لسنا وحدين. وأننا أصحاب حق وأننا شرعيون، لا حق لأحد أن ينبذنا أو يحتقرنا أو يرمي بأوجاعنا في الظل باعتبارها غير حقيقية. كانت أيامًا جميلة و كانت الحياة كثيفة. وكنا في غمرة العاطفة والأفكار والعمل.. كانت الأيام تلاحق الليالي، وكانت طاقتنا كبيرة، والحياة شاسعة مرعبة وممكنة.

كانت أيامًا جميلة، كثيفة ومؤنسة. كنا نحن الأطفال المنبوذين، المجروحين لأسباب مختلفة. لأجل اختلافنا. كنا مجتمعين. يجمعنا الغضب والحلم والأمل بأشياء ضبابية تبدو بديهية لكل أحد على حدة، توهمنا بالتفاهم وكان شغفنا عظيمًا.

كانت أيامًا كخدر. وكان الخدر، حبًا أكبر من كل حب. وحلمًا أكثر احتمالات واتساعًا من أي حلم. أن يكون لنا جذور وانتماء معترف به، آمن، مقبول. أن يكون لنا وجود تحت الشمس ومستقبل مضيء. أن نكون بشرًا بحواس، أعين ترى وتصدق، صوت يسمع ورأي يحترم وكينونة تقدر ومشاركة ذات فائدة ومعنى واعتراف.. بأننا أبناء هذه الأرض ونحبها. ولن يشكك بوجودنا أو حقنا في المشاركة أحد.

أننا أحرار، نرفض المحدودية، التقزيم والذل وسنحيا بكرامة وسننجو من كل أشكال الخوف والفقر.

كانت أيامًا ذات معنى. كان الركض في مسارب القلق مثيرا. وكان التعب لذيذًا. ومبارزة الأقدار مرضية والألم لضيق اليومي وشبه استحالته رومانسيا.

كانت أيامًا جميلة.. كدفق بركان.. وكنا شرارته.. بعضنا احترق وبعضنا انطفأ.. وبعضنا سالت جمرته.. مشى فوقها الآخرون..

كانت أيامًا.. ومضت. وبقيت آثارها فينا، في أذهاننا وأجسادنا وضمائرنا ووجداننا. شيء من الضوء، شيء من الحرق وشيء من السواد. كانت أيامًا بنكهة الفخر.. وجاءت أيام بنكهة العار.

صار التهديد بسلب الحرية، روح الثورة، مقيتًا.. كالعفن الذي يتكاثر في الرماد.. وكدود صغير، في جرح يحاول أن يلتئم

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات