عندما يقود دولة تاريخية وكبرى رئيس ذو خبرة أمنية كالرئيس الروسي بوتين ، لا يستطيع أي باحث استبعاد "النزعة الأمنية الاستخبارية " في دبلوماسية هذا الرئيس ، وبالمقابل ،فان قيادة دولة " تعد خصما لروسيا" من شخص تقتصر خبرته على تحقيق المكاسب المالية وبنزعة رأسمالية متوحشة ، فان الثاني "يمكن" أن يكون صيدا محتملا للأول.
ولعل المراقبة لطبيعة توجهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه دول العالم كله بما فيها الحلفاء التاريخيين لبلاده، تجعل من علاقاته مع روسيا لا تتسق ونهجه العام ، فها هو يهدد أوروبا ويربك حلف الناتو ويريد اقتطاع غرينلاند من الدنمارك ويستولي على قناة بنما ويريد ضم كندا ويهدد حتى حلفاءه في الشرق الأوسط، كما أن موقفه من الصين يصل الى حد المواجهة التامة ..ولكنه في مقابل هذه الصورة التي يستهجنها قادة دول وازنة كبريطانيا وفرنسا وألمانيا ، يقف موقفا وديا تجاه روسيا ويسعى لجر حلفائه نحو المساومة مع روسيا في أوكرانيا، وبكيفية توحي أن جوهر ما يدعو له هو الإذعان الأوروبي لروسيا.
ألا يستدعي كل ما سبق التساؤل عن مفارقات سياسات ترامب ؟ هل له صلات استخبارية مع ال "كي جي بي" السوفييتية( التي أصبحت جهاز الأمن الفدرالي الروسي) التي كان بوتين احد عباقرتها طيلة تجسسه على الناتو ولمدة تصل الى عقد ونصف؟ أليس السعي للكسب المالي وبناء الإمبراطوريات العقارية ومقاولات حفلات المصارعة وضعفه أمام الأنوثة تمثل " هدفا ناعما" لدهاقنة أجهزة المخابرات الكبرى؟
فإذا أضفنا لكل ما سبق الملاحقات القانونية التي لاحقت ترامب منذ بروزه على الساحة السياسية ، وكان ابرزها ملاحقات خاصة بمزاعم عن "صلات مشبوهة مع روسيا" وأدوار روسيا في نجاحه في المرة الأولى في الانتخابات الأمريكية ، فان الأمر يصبح أمرا يستحق متابعته من خلال عشرات المراجع والكتب والتقارير الصحفية التي تنهك القارئ بتفاصيلها.
فهل ما قاله عميل المخابرات الروسية السابق يوري شفيتس، بان دونالد ترامب كان بمثابة أصل( Asset) او ذُخر روسي على مدار 40 عامًا، وبأنه تكرار لمشهد حلقة التجسس البريطانية التي نقلت الأسرار إلى موسكو خلال الحرب العالمية الثانية وأوائل الحرب الباردة.
ويورد كتاب كريغ أونغر(Craig Unger) تحت عنوان" American Kompromat" والذي يقع في 352 صفحة والصادر عام 2017 ، تفاصيل هامة عن علاقات ترامب بروسيا وصلاته مع رجل أعمال مريب هو جيفري إبستين.، واستند الكاتب بشكل واضح في ابرز موضوعاته على شهادات يوري شفيتس، الذي أرسله الاتحاد السوفييتي إلى واشنطن في الثمانينيات، مشيرا الى أن كثيرا من الطلاب يتم تجنيدهم ثم دفعهم للوصول الى مناصب هامة ، وهو امر وقع لترامب نفسه.
لقد كان شفيتس ضابطا كبيرا في الاستخبارات السوفييتية، وكان يعمل تحت غطاء مراسل صحفي لوكالة الأنباء الروسية "تاس" خلال الثمانينيات من القرن الماضي، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة بشكل دائم في عام 1993 وحصل على الجنسية الأمريكية ، ثم عمل محققاً في أمن الشركات وكان شريكاً لألكسندر ليتفينينكو، الذي اغتيل في لندن عام 2006.
ويوضح المؤلف أونجر كيف ارتبط ترامب بالروس في عام 1977 من خلال علاقة مع عارضة أزياء تشيكية اسمها إيفانا زيلنيكوفا والتي أصبحت زوجة ترامب الأولى، وفي تلك الفترة تم التنسيق بين المخابرات التشيكية والسوفييتية لاستثمار ترامب في نشاطاتهما. وما يثير التساؤل سرعة انتقال ترامب لعالم الثراء خلال 3 سنوات الى حد افتتاح أول مشروع عقاري كبير له وهو فندق جراند حياة نيويورك بالقرب من محطة جراند سنترال، وحصل على 200 جهاز تلفزيون للفندق من مهاجر سوفييتي هو سيميون كيسلين الذي كان يمتلك شركة Joy-Lud Electronics ، وهي تابعة للمخابرات السوفييتية .
وتبدا مرحلة تعميق العلاقة –طبقا للكتاب- في عام 1987، عندما زار ترامب الأمريكي وزوجته التشيكية كلا من موسكو وسان بطرسبرج، وخلال هذه الفترة تحول اتجاه رجال المخابرات الروسية الى توجه جديد وهو زرع فكرة "الدخول الى عالم السياسة " في عقل ترامب بعد دراسة شخصيته القابلة للنفاذ فيها من خلال جوانب ضعفها ، وبخاصة صفات ثلاثة شكلت المدخل لتجنيده وهي: الضعف الفكري، الخلل النفسي، تلذذه المفرط بالإطراء عليه.(والغريب أن هذه الصفات تتطابق مع جوهر تقرير خبراء العلوم النفسية والاجتماعية الأمريكيين الذين وضعوا تقريرا حول حالة ترامب النفسية عام 2017)، ويشير الكتاب الى ان التركيز لرجال المخابرات السوفييتية بشكل أساسي كان على نقطة محددة هي زرع فكرة في عقل ترامب هي " انه يجب أن يكون رئيسا للولايات المتحدة، فمثله هم القادة المؤهلون لقيادة العالم " وهو ما دغدغ نرجسيته المرضية بشكل كبير.
وبمجرد عودته بدأ يسعى لتعميق علاقاته بالحزب الجمهوري، وبدأ بعقد لقاءات وتجمعات انتخابية إضافة لنشر العانات انتخابية في اهم الصحف الأمريكية وبخاصة نيويورك تايمز، وتضمنت إعلاناته التشكيك بجدوى حلف الناتو وبالعلاقة مع اليابان "، وبقي التواصل مع روسيا الى أن جاءت انتخابات 2016 والتي فاز فيها ترامب وتحقق التخطيط الروسي واصبح ترامب رئيسا للولايات المتحدة .
وبعد فوزه الذي سارعت روسيا للترحيب به، بدأت موجة عاتية من الاتهامات المباشرة والضمنية لاحتمال علاقة مشبوهة بين روسيا وترامب، ولكن لم يتمكن المحقق المكلف بالقضية روبرت مولر من إثبات وجود مؤامرة بين أعضاء حملة ترامب والروس، لكن مركز صندوق العمل للتقدم الأمريكي الذي وقف وراء مبادرة مشروع موسكو، أن فريق حملة ترامب كان لديهم اتصالات مع الروس (قدرت بحوالي 272 اتصالاً) وانهم عقدوا اجتماعات مع عملاء روس(قدرت ب 38 اجتماعًا ).
لكن تقرير مولر الصادر في مارس عام 2019 ،والذي يقع في جزئين من207 صفحات، تحت عنوان (Report On The Investigation Into Russian Interference In The 2016 Presidential Election)، يستعرض في مجلده الاول النتائج الواقعية لتحقيق المستشار الخاص في تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 وتفاعلاتها مع حملة ترامب، وتم تقسيم المجلد الى خمسة أقسام يصف القسم الأول نطاق التحقيق في الموضوع ، بينما يصف القسمان الثاني والثالث الطرق الرئيسية التي تدخلت بها روسيا في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، في حين يحاول القسم الرابع تحديد الروابط بين أعضاء في الحكومة الأمريكية والأفراد المرتبطين بحملة ترامب، وحدد القسم الخامس قرارات الاتهام التي توصل لها المستشار الخاص.
أما المجلد الثاني من التقرير، فتركز على تصرفات الرئيس تجاه مكتب التحقيقات الفيدرالي ، الى جانب عرض تصرفات الرئيس تجاه تحقيق المستشار الخاص، مع عرضه الاعتبارات التي وجهت التحقيق في الاتهامات.
لكن الملفت للانتباه هو طبيعة الجهات المدعية، فهي جهات ذات وزن في المجتمع والدولة، في يونيو/حزيران، أعلنت اللجنة الوطنية الديمقراطية وفريق الاستجابة السيبرانية التابع لها علنًا أن قراصنة روس اخترقوا شبكة الكمبيوتر الخاصة بها. وبدأت عمليات إصدار المواد المخترقة التي سرعان ما نسبتها التقارير العامة إلى الحكومة الروسية في نفس الشهر.
وتبع ذلك إصدارات إضافية في يوليو/تموز من خلال ويكيليكس، مع إصدارات أخرى في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني. وفي أواخر يوليو/تموز 2016، بعد وقت قصير من إصدار ويكيليكس الأول للوثائق المسروقة، اتصلت حكومة أجنبية بمكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن لقاء في مايو/أيار 2016 مع مستشار السياسة الخارجية لحملة ترامب المدعو جورج بابادوبولوس، وكان بابادوبولوس قد اقترح على ممثل تلك الحكومة الأجنبية أن حملة ترامب تلقت مؤشرات من الحكومة الروسية بأنها يمكن أن تساعد الحملة من خلال الإصدار المجهول لمعلومات تضر بالمرشحة الرئاسية الديمقراطية هيلاري كلينتون. وقد دفعت هذه المعلومات مكتب التحقيقات الفيدرالي في 31 يوليو/تموز 2016 إلى فتح تحقيق في ما إذا كان الأفراد المرتبطون بحملة ترامب ينسقون مع الحكومة الروسية في أنشطتها التدخلية، بعد ذلك أعلنت وكالتان فيدراليتان بشكل مشترك أن الحكومة الروسية "وجهت الاختراقات الأخيرة لرسائل البريد الإلكتروني من الأشخاص والمؤسسات الأمريكية، بما في ذلك المنظمات السياسية الأمريكية" بهدف التأثير على نتائج التدخل في عملية الانتخابات الأمريكية". وبعد الانتخابات، في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2016، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا لتدخلها في الانتخابات، وبحلول أوائل عام 2017، كانت العديد من اللجان في الكونجرس تفحص تدخل روسيا في الانتخابات، كما أن السلطة التنفيذية، استنادا لما سبق اتخذت قرارا في مايو 2017 بفرض عقوبات على روسيا بسبب تدخلها في الانتخابات.
ورغم أن التقرير يحتوي على صفحات تم طمس محتوياتها باللون الأسود( يبدو أنها تشتمل على معلومات خطيرة وسرية)، لكن مسالة التدخل الروسي كانت مسألة جدية بالقدر الذي دفع الحكومة الأمريكية الى اتخاذ إجراءات عقابية ضد روسيا ، بخاصة ان التقرير يكشف عن لقاءات واتصالات بين فريق ترامب بخاصة كوشنر وغيره واطراف روسية او وكلاء لهم، واللافت للنظر أن التقرير يميز بين معالجة الموضوع على أساس المؤامرة(Conspiracy) لا على أساس التواطؤ(Collusion)- طبقا للتمييز في القانون الفيدرالي الأمريكي- ، ولذلك انتهى التحقيق الى أنه لم يثبت أن الاتصالات الموصوفة في المجلد الأول، القسم الرابع، أعلاه، كانت بمثابة اتفاق على ارتكاب أي انتهاك جوهري للقانون الجنائي الفيدرالي - بما في ذلك قوانين النفوذ الأجنبي وتمويل الحملات،. وبالتالي، لم يتهم المكتب أي فرد مرتبط بحملة ترامب بالتآمر لارتكاب جريمة فيدرالية أو أي جريمة أخرى.
فإذا أضفنا الى كل ما سبق الجهات الأخرى التي تدعم فكرة العلاقة بين ترامب وروسيا ( مثل ملف كريستوفر ستيلي، والتقارير الصحفية بخاصة ما نشرته نيويورك تايمز أو واشنطن بوست عام 2017، وتقارير مختلفة من ال FBI أو بعض تقارير لجان االكونجرس أو شخصيات مناصرة لترامب أو من رجال الأعمال الذين لهم صلة به، فان الأمر يستحق التوقف عنده، فمن غير المعقول أن كل هذه المعطيات ليس لها أساس.
الخلاصة: ليس من السهل الجزم في قضية كهذه ، ولكن الأمر يفتح بابا للاستغلال من قوى الدولة العميقة في أمريكا، فإذا ذهب ترامب بعيدا في قراراته غير المنضبطة، أو إذا حاول انتهاج سياسات تبدو منحازة "لروسيا" ، فان عدم الرضا الأوروبي أو غيره من حلفاء أمريكيا لن يؤثر على ترامب مع حجم تأييده الشعبي الذي ظهر في الانتخابات ، وهو ما يعني أن المخرج الوحيد للدولة العميقة- إنْ تمادى ترامب - هو نبش ملفات- كعلاقاته مع روسيا- تفتح الباب أمام المساءلة القانونية وإقامة الدعوى مجددا