واقع المقاومة اللبنانية بين التشفي والأسف

منذ 43 سنة ، وبعد ما يقرب من 3 سنوات من الإحباط الذي تركته معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ، ثم التغير في المشهد الشرق أوسطي بقيام الثورة الإيرانية في ذات العام ، وفي بلد عربي لم يكن يُحسب في الصراع العربي الإسرائيلي ضمن جبهات ما يسمى بالجبهة الشرقية ، ظهر حزب الله ، وأخذ موقعه في خريطة القوى السياسية في الإقليم الشرق أوسطي ، ومع تطوره وانغماسه في الصراع العربي الصهيوني طفت ظاهرة الانقسام العربي حوله بين من يراه ذراعا للتشيع السياسي الإيراني وبين من يراه نبراسا متوهجا في طريق تحرير فلسطين، واستمر تنامي الحزب حتى منتصف عام 2024 وساهم في إسناد طوفان الأقصى مساهمة مؤثرة بإقرار الطرف الصهيوني ذاته بمن فيهم نتنياهو وكل الخبراء النزيهين من العرب وغير العرب.

لكن الحزب تلقى ضربات قاسية للغاية في المرحلة الأخيرة من المواجهة ، وشكلت ضربة البيجرز والاغتيال المتلاحق لصفوة قادته السياسيين والعسكريين، وتردده في استهداف المدنيين الإسرائيليين رغم اتساع استهداف مدنييه من الجيش الإسرائيلي، بداية لتحول أراه استراتيجيا في توجهات الحزب رغم انه يحاول "تمويه " هذا التحول لكنه- إعلاميا- غير موفق في ذلك حتى الآن.

ولكن نرى الصورة بما نظنه علميا ، وبعيدا عن سياسة التشفي لدى البعض والأسف لدى البعض الآخر، يجب التوقف عند الظواهر التالية:

1- لقد قطعت قيادة المقاومة اللبنانية عهدا استراتيجيا بربط استمرار اشتباكها مع إسرائيل بوقف العدوان على غزة، لكن الحزب تجاوز تماما هذا الوعد، وغاب هذا الوعد عن هذه الاستراتيجية تماما في كل خطب قيادته الجديدة وفي كل تصريحات ممثليه وإعلامه المرئي والمكتوب والمسموع…

2- قطع الحزب عهدا بان الانسحاب من جنوب نهر الليطاني سيكون طبقا للطرفة التي راجت حينها والمح لها قائده الشهيد بان انسحاب النهر اقرب من انسحاب المقاومة ، لكن ما جرى هو تنفيذ لانسحاب من الحزب لا لُبس فيه بذريعة تطبيق قرار 1701.

3- رغم استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على قادة وأفراد من الحزب وعلى مواقع مختلفة له منها القريب من الجبهة ومنها ما هو في عمق لبنان والضاحية الجنوبية، بل والتمركز في داخل الأراضي اللبنانية في مواقع استراتيجية ، فان الحزب يتبرأ من اعتبار ذلك من ضمن مسئولياته مؤكدا إن ذلك يقع ضمن "مسئوليات الدولة اللبنانية" حصرا.

4- موافقة الحزب على تمرير تنصيب رئيس جديد للدولة ورئيس وزراء جديد رغم أن كليهما " مِنَّةٌ " من خصومه الغربيين والخليجيين واللبنانيين ، ويصر كل من الرئيس ورئيس وزرائه جهارا نهارا على أن حمل السلاح " حصرٌ" على الدولة ،وهو ما يعني –عند ربطه بموقف الحزب إن الأمور كلها بيد الدولة- وان شعار الدولة والشعب والمقاومة اصبح خلفنا.

5- شكلت عمليات عودة المهجرين اللبنانيين مقابل تردد عودة المستوطنين الى شمال فلسطين المحتلة –بخاصة في مرحلة وقف اطلاق النار- ثم الحضور الكبير لمشيعي قائد الحزب متنفسا للحزب ليوحي بحضور فاعل ، ومع الإقرار بدلالات ذلك، لكن الدلالة ذات طابع تكتيكي لا استراتيجي، والرهان دائما على الاستراتيجي فقط.

6- شكل التغير الجذري في النظام السياسي السوري ، ثم تنامي وزن ورثة بريمر في بنية السلطة العراقية من ناحية وامتناع التيار الصدري وبعض فصائل الحشد عن التدخل في التحول السوري ، واتساع قاعدة التدخل التركي، واستمرار الحضور الأمريكي العسكري في سوريا ، قاعدة لجعل ايران تعيد الحساب بخاصة مع الاضطراب في المشهد الدولي نتيجة الحجارة الثقيلة التي يلقيها ترامب في بركة الواقع الدولي، وكل ذلك يجعل المقاومة اللبنانية غير مهيأة للعودة لقواعدها سالمة في المدى القصير بل والمتوسط.

لقد كشف هذا المسار الذي سردناه مشكلة بنيوية عميقة في المقاومة اللبنانية، فقد قدمت هذه المقاومة أداء لافتا وموجعا للعدو في بداية المعركة، وأعطت انطباعا بصلابة تنظيمية نادرة، ، لكن التحول والضربات الكبرى ضدها جرت خلال فترة قصيرة للغاية، وهو ما يجعلني ارجح وبقدر كبير من الحذر ان الحزب تعرض " لانقلاب داخلي بخطة صنعتها العقلية ذاتها التي وضعت خطة البيجرز وقدمت المعلومات لتصفية القيادة المركزية، ثم تم تولية قيادة يبدو ان الكرسي " واسع جدا عليها" أو أنها مطوقة بعلامات استفهام كثيرة ، قد تصل بها الى التحول التدريجي وبهدوء للاندماج في بنية المجتمع المدني اللبناني، وستجد من يرحب بها في هذا الميدان .

ولكن هل يمكن ان نفترض وجها آخر لما يجري ، ربما يجول في الخاطر أن الحزب دخل في مرحلة "الخداع الاستراتيجي" مشحون في لاوعيه ووعيه على حد سواء بثقافة " التَّقِيَة والكتمان" التي تمثل احد ملامح الخبرة التاريخية للشيعة ، وهي تكتيك تاريخي لبناء الذات الى حين القدرة على الجهر بخلاف ما يتوهمه الناظر بداية، وهو ما قد يدل عليه مستقبلا حراك هذا الحزب في مستوياته القيادية وطبيعة تحالفاته المحلية والإقليمية القادمة...ربما…ولكن مترددة بعض الشيء هذه المرة .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات