أنشر هذه المقالات من هذا المنبر تحت اسم مستعار، لا خوفًا من الحقيقة، بل اتقاءً لأنيابها حين يصير قولها جريمة. أكتب متخفّيا(ة)، لا جبنًا، بل لأنّي أؤمن أن الكلمة الصادقة أحيانًا تحتاج قناعًا لتُكمل طريقها.
أحيّي كلّ سجناء الرأي في تونس… أولئك الذين لم يتنازلوا عن ضميرهم ولم يساوموا على حريّتهم. أحيّي من اختار السجن بدل الانحناء، ومن جعل من الزنزانة منبرًا للكرامة. هذه الكلمات موجّهة إليهم، وإلى كل من لا يزال يؤمن أن تونس تستحق أكثر من الخوف، وأكثر من الصمت، وأكثر من الشعارات الجوفاء. تونس تستحق الحقيقة، ولو كُتبت تحت اسم مستعار.
تعيش تونس اليوم في ظل حكم تحوّل إلى رمز للارتجالية والدمار في آن واحد، حكم يبدو غارقًا في أوهام عظيمة لا تمت بصلة للواقع فأصبحت مصدرًا رئيسيًا للفوضى والانقسامات التي تعيشها البلاد. اختار الحاكم أن يكون "فتي أحلام" مكسورة، وقد ثبت في النهاية أن تلك الأحلام كانت سببًا رئيسيًا في تدهور الوضع في تونس.
في تونس، لم يعد الإعلام سلطة رابعة… بل صار ساحة إعدام رمزية. نخب تُجوّع، صحفيون يُهانون، كلمات تُقمع حتى قبل أن تولد. لم يعد الميكروفون صوتًا، بل فخًا. صار القلم خنجرًا مقلوبًا على كاتبه، والهواء الذي كان يتنفسه الصحفي، بات يُرَشّ بالرعب والسُخرية والملاحقات.
الإعلاميون اليوم يُساقون إلى مذابح المعنى، حيث تُصادَر الحقيقة، وتُستبدل بالدعاية، وتُقايَد الحرية بالولاء. الرئيس لا يرى في الإعلام إلا مرآة تعكس صورته وحده، لا صوت الناس. وإن اختلف أحدهم، فهو خائن، متآمر، عميل، متواطئ، خارج عن اللحظة التاريخية الكبرى التي لا نعرف من كتب فصولها.
صحفي اليوم لا يسير نحو قلمه، بل نحو زنزانة احتمالية، أو نحو تشويهٍ يسبق حتى المحاكمة. المنابر تُغلق، لا لأنها فارغة، بل لأنها مليئة بما لا يُحتمل سماعه. الأسئلة تُمنع، لا لأنها خطأ، بل لأنها تُربك الراوي الوحيد. في تونس اليوم، الإعلام لا يحتضر، بل يُعدَم على العلن، وتُصفّق له بعض الأيدي المرتجفة، لكن رغم كل ذلك، ما زالت هناك أصوات تكتب، لا لتُسمع، بل لأن الصمت صار أخطر من الكلام.
تونس اليوم لا تطرد أبناءها فقط، بل تدفع بأذكاهم إلى الأبواب الخلفية للمنفى. من يبدع، يهرب. من يفكر، يُتهم. من يتفوّق، يُقصى. لم تعد الكفاءة سببًا للفخر، بل تهمة! صار المبدع غريبًا في وطنه، مهددًا في رزقه، مشكوكًا في ولائه، محاصرًا بلغة خشبية لا تعرف من العلم إلا اسمه.
الجامعات التي كانت يومًا منارات فكر، أُطفئت أنوارها، وباتت تُدار كأنها ثكنات أو إدارات بائسة. أما السياسة التعليمية فصارت بلا بوصلة، بلا أفق، بلا حلم… وكل من ما زال يملك ذرة رجاء، يحملها في حقيبته ويغادر.
كل يوم، يهاجر جرّاح، مهندس، شاعر، فنان، باحث، معلّم… وكل يوم، يتقلّص الوطن أكثر، ويكبر المنفى فينا أكثر. تونس التي كانت تُصدّر الوعي، باتت تصدّر النزيف. أما أولئك الذين لا جواز سفر لهم، ولا شهادة عالية، ولا سبيل نظامي للهجرة، فلم يبقَ لهم غير البحر. نعم، البحر. ذلك الأزرق الذي كنا نكتب له القصائد صار اليوم مقبرة جماعية.
قوارب متهالكة، أحلام ثقيلة، مياه باردة، وحيتان لا تعرف الرحمة. الموت لم يعد مفاجأة، بل احتمالٌ مقبول، بل حتى مرغوب… أمام قسوة الواقع، صار الغرق أكثر رحمة من العيش. والسلطة؟ تكتفي بالصمت… أو تثرثر بتصريحات متوترة، مرتجلة، كأنها هذيان من يحدّق في مرآته، لا يرى الغرقى ولا يسمع أنين الأمهات.
الواقع الاقتصادي التونسي اليوم أصبح شبحًا يطارد كل شيء. التضخم لا يتوقف عن التزايد، كما لو أن الأسعار تقاوم الأنفاس الأخيرة للمواطن. البطالة ليست رقمًا في إحصائية، بل واقعًا يوميًا يلاحق الشاب التونسي من الصباح حتى المساء. الشباب اليوم لا يحلمون، بل يتنفسون قلقًا. لا فرص، لا مشاريع، ولا حتى فسحة صغيرة للنجاح.
أين أملهم؟ أين غدهم؟ وفي ظل هذا الظلام الاقتصادي، بات الانتحار ليس مجرد خيار فردي، بل هزيمة جماعية لشباب ضاع في متاهة من وعود زائفة وآمال محطمة. لم يعد الفقر وحده هو القاتل؛ بل أصبح إحساس الضياع، ظلم اللامبالاة، والفراغ المعنوي القاتل، الذي يجعل الحياة ثقلًا لا يطاق.
هل كان هذا كافيًا؟ الجواب هو لا. ها نحن نرى المجتمع التونسي يتفكك قطعة قطعة، السرقات في ازدياد، في كل الشوارع، وكل الأحياء. الفساد لا يتسلل فقط إلى الطوابق العليا، بل يغمر حتى الزوايا المظلمة. والفقراء؟ منسيون، مغيّبون، يهيمون في طرقات الوطن المهجور. ما نراه اليوم هو صراع بين من يسرق باسم السلطة، ومن يسرق باسم الحاجة.
أصبح السؤال: "إلى أين نحن ذاهبون؟" ليس مجرد سؤال… بل دعوة مستمرة نحو كارثة على الأبواب. ما يحدث داخل جدران الوطن ليس أقل مرارة. القدرة الشرائية تنهار. نعم، المواطن التونسي أصبح عاجزًا عن شراء أبسط ضروريات الحياة. الملابس، الطعام، الأدوية… كلها أضحت سلعًا محصورة في أسواق الأغنياء.
وفي هذا العذاب اليومي، نجد أن السجون لا تستقبل المجرمين كما هو متوقع، بل بدأت تتحول إلى مراكز لاحتجاز كل من يجرؤ على إبداء رأي مغاير، كل من يسعى لاستعادة الحريات المفقودة.
الزنزانات التونسية اليوم ليست مكانًا للعدالة، بل أداة للقمع. أصبح السجن ملاذًا سياسيًا، ليس للمجرمين، بل لكل صوت ضاق به الوطن، فبات يصرخ في الظلام..
تونس اليوم أصبحت أشبه بمركب يواجه العاصفة. لا خطة واضحة، لا رؤية للمستقبل، ولا أدنى محاولة للإجابة على أسئلة الشعب التي تراكمت حتى أصبحت ثقيلة. ماذا عن الأمل الذي كان يتدفق من قلوب التونسيين بعد الثورة؟ كيف تحول هذا الأمل إلى سرابٍ بعيد؟
هل هذه تونس التي حلمنا بها؟!! هل هذا هو الوطن الذي ضحى من أجله شبابنا؟ لقد تحوّلت الدولة إلى سجن كبير، يسحب من المواطن حريته وحقه في التعبير عن رأيه. أصبحنا أمام قمعٍ لا يعرف الحدود، تتزايد فيه الانتهاكات. أين هي الحريات التي ناضلنا من أجلها؟ أين حقوقنا في أن نحلم ونصوت ونرفض؟
تونس اليوم أسيرة في يد سلطوية لا تعبأ بحاجات شعبها، بل تكرس سلطتها على حساب الجميع. هل سيظل الحال على ما هو عليه؟ أم أن التونسيين سيجدون السبيل إلى خلاصهم؟ يبقى الأمل في قلب الشعب الذي يرفض أن يموت بلا مقاومة.
*غدا المقال الثاني