هو والكرسي....من يمتلك من؟

يمسك بكرسيه كأنما يخشى أن يتحول إلى منطاد يطير به بعيدًا، يحدق في الفراغ بعينين عابستين كأنهما نافذتان تطلان على الفراغ المطلق. لحظة ارتباك متكررة في عالمه الزائف، حيث الكرسي الذي يحمل جسده، يبدو كأنما هو من يحمل روحًا تطوف حوله، مهددة بالانزلاق في بحر من عدم اليقين. ربما، في تلك اللحظة المربكة، يعتقد أن الكرسي قد بدأ يتحدث إليه، همسًا. يعده بالخلود إذا تمسك به أكثر، أو يهدده بالتآمر عليه إذا تجرأ على التفلت من قبضته. مع كل همسة، تزداد قبضته، وتصبح أصابعه كماشة فولاذية، حتى تصبح هي الكرسي، وهو مجرد كائن ضعيف يدور في فلكه.

ليس مجرد خوف من السقوط، بل من تداعياته الكبرى. الكرسي بالنسبة إليه ليس مكانًا للراحة، بل هو عرشه المسروق من قلب الخوف. هو سجن، هو عزاء، هو التعايش مع الخوف في قلب الفوضى الوجودية. إذن، هل هو يتمسك بالكرسي خوفًا من السقوط في هاوية العدم؟ أم أن الكرسي هو الخط الفاصل بينه وبين الموت الاجتماعي الذي يلاحقه في كل لحظة؟

في يده، تصبح الحركة كأنها تلبس ثوب الهشاشة، تعبيرًا عن محاولة يائسة لتعليق الزمن على جدران الكرسي. كأنما تلك اليد، التي تسحب الكرسي نحو الأرض، تمثل مقاومة ضد فكرة التداعي، ضد الجاذبية التي تسحبنا إلى الأسفل. إنه يقاوم بتلك اليد اليسرى التي لا تنفك تهمس له بأنه لا يزال في وضع يسمح له بالتمسك باللحظة، بالسلطة، بالحياة التي يعتقد أنه يمتلكها.

لكن هل هو حقًا يمتلك هذا الكرسي؟ أم أن الكرسي يمتلكه في هذا المشهد التراجيدي الذي لم يعد يعرف فيه أين يبدأ الكرسي وأين ينتهي هو؟ تكمن المعضلة في أن هذا الصراع مع الكرسي هو صراع مع ذاته، مع خوفه من التفكك، من فقدان السيطرة على عالمه الذي بنى جدرانه بنظراته العابسة وأصابعه المرتجفة. يرى في الكرسي أملًا في الثبات، في عدم الفناء، في الخلود. لكن الحقيقة أن هذه الثباتية هي وهم، هي تمثيلية لطاغية صغير، يعيد إنتاج نفسه في دوامة من الخوف الذي لا ينتهي.

نظراته، التي لا تلتقي بنظرات الآخرين، تعكس جدارًا نفسيًا يعزل روحه عن العالم الخارجي. كما لو أنه لا يستطيع التواصل مع أي شيء آخر غير هذا الكرسي. عالمه الذي اختار أن يكون محدودًا ومظلمًا، يحاول أن يثبت نفسه فيه. هذا الثبات، هذه الهيبة الظاهرة، هي فقط قناع يرتديه ليخفي خوفه، ليخفي هشاشته أمام عالم يتسارع من حوله.

ما يحمله في يديه ليس مجرد حبل نجاة، بل عبء يُضاعف من ألم عزلة السلطة. يعتقد أن يديه القويتين هما ما يجعل العرش ثابتًا، لكن ما لا يعلمه هو أن اليدين هما في الحقيقة انعكاس لأزمة داخلية عميقة، أزمة تتعلق بعدم الثقة، بالخوف من المجهول، بالخوف من أن يكون غير مرئي في عالم أصبح فيه الجميع يبحث عن مكانه في دائرة القوة.

حين يتحدث عن المستقبل، يُحدثنا عن عالم غير مرئي، عن غموض يتنكر في صورة "أعداء". لكن في حقيقة الأمر، هو يخوض معركة مع ذاته، مع خوفه من الزمن، مع الخوف من التغيير، مع الخوف من فقدان سلطته الزائفة التي تتهاوى شيئًا فشيئًا. عزلة سيادته على الكرسي هي في الحقيقة انعكاس لعزلته عن العالم، هي تجسيد لرفضه للاعتراف بوجود آخر غيره. هو يرى نفسه في مرآة العالم، ولا يرى سوى شخصه في ذلك الزجاج الباهت.

العزلة التي يعيشها هي حصن من الخوف، ولكن في نفس الوقت هي الفخ الذي وقع فيه. كلما تمسك أكثر، كلما ازداد ضعفًا. كلما حاول أن يبدو قويًا، زادت هشاشته. هو ليس الرجل القوي الذي يعتقده الآخرون، بل هو الرجل المخبأ خلف ستار من الأوهام، يهرب من نفسه أكثر مما يهرب من العالم.

وعلى الرغم من عبوسه، وعزلته، يظل يسعى للهيمنة على الكرسي، متوهمًا أنه هو من يسيطر عليه. ولكنه في الحقيقة يعيش تحت وطأة خوفه، يعبث به الزمن وهو يعتقد أنه يعبث به. في النهاية، هي صورة مأساوية لطاغية صغير يبحث عن سيادة وهمية، بينما هو أسرع من أي شخص في السقوط في فخ الزمان.

*غدا المقال الثالث والأخير

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات