اليوم التالي لقيس سعيد!

ستقوم الطبيعة بعملها وسيكون هناك يوم تال لزمن قيس سعيد. لا أزعم كتابة تنبؤات هنا إنما هي الأقدار، سيفرح البعض وسيحزن البعض الآخر، ولكن أبعد من الحزن والفرح أو الشماتة، هل توجد مؤشرات على أن اليوم التالي لقيس سعيد سيكون مختلفا عن زمنه وعن الزمن الذي سبقه وجاء به؟ هل عقَل التونسيون قيمة الديمقراطية أم أنهم ماكثون على غيهم الذي أودى بتجربتهم الوليدة؟ أستقرئ وضعا أسمع فيه نواحا كثيرا على ما فات، لكني لا التقط أي مؤشر على يوم تال يقوم على استعادة الديمقراطية المغدورة.

مؤشرات الجمود السياسي

لا تزال الساحة السياسية منقسمة على أسس استئصالية، ولم تظهر أية بوادر حوار بين معارضي قيس سعيد، وبالتدقيق بين من صنفوا أنفسهم ديمقراطيين وبين الإسلاميين. كما لم تظهر أية تحركات ضمن الاختلاف المذكور تتفق على استعادة الديمقراطية ولو بالحد الأدنى.

نجزم بالتجربة أن فكرة استعادة الديمقراطية تعني عند صنف من المعارضة عودة الصندوق الانتخابي، وهذا الصندوق يهدد وجودها. لم يكن لهذه الحزيبات وزن يوم فتح الصندوق، وقد تلاشت وتفرق أنصارها محبطين بعد الانقلاب الذي شاركت فيه ودعمته فنبذها نبذ الكلينكس، ولا نسمع ولا نرى الآن أنها تشتغل على إعادة توليف قاعدتها أو إعادة بناء أفكار محفزة للتجميع في انتظار صندوق انتخابي.

إن حجم ما تقوله قياداتها المتبقية في المشهد عن أخطاء حزب النهضة أكثر مما تقوله عن تصورات عملية للخروج إلى مستقبل سياسي ديمقراطي. ما زالت هذه الجماعات تكرس كل قوتها لنفس الهدف إقصاء النهضة (حية أو ميتة) من المشهد السياسي، هنا عقدة المشهد القادم مثلما كانت سبب انهيار مسار بناء الديمقراطية قبل الانقلاب.

هذا الموقف الثابت بل الجامد نفسره بمعنى واحد؛ هناك من يستفيد من مشهد سياسي تونسي بلا إسلاميين، وهو يعمل على أن لا يكون هناك حل سياسي ديمقراطي، وهذه الحزيبات تعمل لصالحه، فمن يكون؟

لا يقين لنورد أسماء أو جهات بعينها، ولكن هناك لقاء لا يمكن نفيه بين جهات غربية وأخرى عربية في الجوار القريب والبعيد، تلتقي في تونس وفي غيرها على إقصاء الإسلاميين من كل فعل. وهي نفس الجهات التي دعمت الانقلاب ولا تزال، بما يكشف لنا أن الحزيبات المتكلمة الآن ضد الانقلاب غير جادة في قولها المعارض، إننا نراها في موقعها الأول؛ رفض التمشي الديمقراطي، لنخلص إلى أنها ليست معارضة بل هي جزء من الانقلاب حتى الآن وستعمل بأمر مسيّريها، على أن يكون اليوم التالي مثل اليوم الجاري، أي أنها في اللحظة الراهنة ليست جزءا من أي حل ديمقراطي في المستقبل المنظور بل هي عائق ثابت.

المشهد الإعلامي استئصالي بامتياز

لا يزال المشهد الإعلامي خاضعا لسطوة اليسار والقوميين وفاشيست بن علي، وهدفه الأول هو حزب النهضة. ويمكن للمرء أن يسمع في تونس أمرا عجبا، فهذا الإعلام يدافع عن نظام قيس سعيد بقوة شرسة لأنه نظام وطني سيادي، لكن في ذات الوقت يتهم حزب النهضة العميل لجهات أجنبية بأنه سبب في وصول قيس للسلطة. كيف أنتجت أخطاء النهضة هذا النظام الوطني؟ لا يرى المتكلمون تناقضاتهم، لكن من المفيد تحميل النهضة وزر عجز منظومة قيس، فالجمهور يعاني الأمرّين ولا بد من جهة تتحمل ذلك، لتكن النهضة ومن معها، فكل من يكشف هذا التناقض يصير "زلمة النهضة".

لم يتحرر الإعلام من قبضة اليسار الاستئصالي، بل عاد في زمن قيس إعلام برافدا بامتياز. لقد زاد هذا الإعلام على معزوفاته السابقة معزوفة جديدة بعد سقوط بشار في سوريا واندحار المحور الإيراني من المنطقة، فحمّل الإسلاميين رغم موقفهم الواضح مع المقاومة في غزة مسؤولية المشاركة في دحر المحور، وتعبير ذلك انحياز للموقف الأمريكي الصهيوني. وبذلك سهل للإعلام استعادة قضايا التسفير والإرهاب وتفجير ميناء بيروت (نعم اتهم الإعلام التونسي حزب النهضة بتفجير ميناء بيروت)، وطبعا سؤال هذه الإعلام عن أدلة على قوله يصير خيانة للمقاومة. ولأول مرة منذ الدولة الفاطمية في تونس (القرن العاشر) عدنا إلى صراع مذهبي شيعة ضد السنة، وهذه قضية جديدة ستحضر بقوة في اليوم التالي لقيس سعيد مهما تأخر هذا اليوم.

اليوم السابق لا يزال هو اليوم التالي

هذه الخلاصة لا تزال فعالة، وسواء على تونس إن بقي قيس سعيد ومنظومته الفاشلة أو خرجوا من المشهد، فإن مكونات المشهد لم تتعلم ولا ترغب في التعلم والمراجعة.

هناك جملة حاسمة لن يقولها أحد هي: "لقد أخطانا جميعا في حق الديمقراطية وفي حق البلد بالضرورة، ويجب أن نغير الأفكار والأساليب ونتجه وجهة ديمقراطية ونتحمل نتيجة الصندوق حتى يصير الأداة الوحيدة للتغير".

وهذه الجملة إن لم يقلها الجميع في نفس اللحظة وبنفس المقدار من الجدية فلن يفيد البلد أن يقولها طرف واحد ويتحمل وحده كلفة ما حصل. إنها جملة الاعتراف وبدء التصحيح بإرادة جماعية، وهي الجملة التي يؤسس عليها اليوم التالي وإلا فلن يكون هناك يوم تال أبدا.

أما ترجيحنا الشخصي في هذه المرحلة فإن هذه الجملة لن تكتب أو تقال في تونس. ونصر على ما يلي: حالة الانسداد الاقتصادي والسياسي تتفاقم والقوى الخارجية المحيطة تراقب وتقيس وتقدر أن الانقلاب وصل إلى نهايته، أو فقد أسباب البقاء، وستكون هناك حركة في الداخل مدعومة ومخططة من الخارج لاستبدال حصان متعب بآخر نشط ضمن نفس المخطط.

يوم تال بأقل قدر من العنف في الشوارع مع بعض التنفيس الاقتصادي، ولكن بجهد جدي يقطع الطريق على الاحتمال الديمقراطي الذي يعود فيه إسلاميون إلى المشاركة، وغير مهم أن يكون إسلاميون في السلطة أو في المعارضة، فحتى مقعد المعارضة ممنوع على الإسلاميين لأن كل المحيط السياسي يعرف يقينا أن بقاء الإسلاميين خارج السجون سيكون مرحلة تفضي إلى مشاركة كاملة عبر الصندوق.

من يكون بن علي القادم لليوم التالي؟ نجزم بأن القوى الخارجية لديها قائمة أسماء وهي ترتب لنا يومنا التالي وتبحث عن مُخْرِجِ ذكي.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات